الفعلَان الّلذان يستعملهما نصّ سِفر التكوين لوصف الجريمة الأولى التي ذهب ضحيّتها هابيل الذي قُتِلَ بيَد أخيه قايين، هما "رَبَضَ"(تك4: 7) و"وَثَبَ" (تك4: 8). فِعلان خاصّان بالحيوان؛ فالحيوان يربض، يطوي قوائمه ويلتصق بالأرض ويترقّب فريسته، حتّى إذا ما رآها وَثَبَ عليها وافترسها.

بالمنطق نفسه، يتحدّث يوحنا ​الإنجيل​ي عن المَكيدة التي كَادَ به عُظماء الكهنة والفرّيسيّون ليسوع ليُمسكوه ويُقتلونه: "وَكَانوا يَبحَثُونَ عَن يَسوع، فَيَقولُ بَعضُهُم لِبَعض وَهُم قَائِمُونَ في الهَيكَل: "مَا رَأيُكُم: أَتُرَاهُ لا يَأتي إلى العِيد"؟. وَكَانَ عُظَمَاءُ الكَّهَنَةِ وَالفَرِّيسيِّونَ قَد أَمروا بأن يخبر عنه كل من يعلم أين هو، لكي يمسكوه"(يو11: 57). راح الفرّيسيّون يترقبون مجيء يسوع إلى العيد، كما ترّقَب قايين مجيء أخيه إلى الحقل، لينقضّوا عليه ويُمسكوه.

"ربضَ" قايين لأخيه هابيل في الحقل كالحيوان، و"وثب" عليه كالحيوان، وقتله كالحيوان. وربض رؤساء ​اليهود​ ليسوع كالحيوانات، ووثبوا عيله كالحيوانات، وساقوه إلى الموت كالحيوانات. ويربض القايينيّون الإلكترونيّون لإخوتهم كالحيوانات، ويثِبون عليهم كالحيوانات، ويفترسونهم كالحيوانات!.

من هُم هؤلاء القايينيّون؟ إنّهُم حُفنة من المسيحيين، وأخصّ بقولي المسيحيين المَدفوع دم البريء ثَمَناً لخلاصِهم، المسيحيّون الرّابضون وراء شاشات مواقع التّواصل الإجتماعي والتّلفزة، ولا شُغلَ لهُم سوى الإنتقاد والثَّلب والإقتصاص والإدانة والإتّهام، والتَّعنيف والتَّذنيب والتَّجريم والتَّسميم والتَّجنيح، والإنقضاض على مَن هُم في ضيقٍ وبَليّة، مُذنبون كانوا أم غير مُذنبين، رجال دّينٍ أمّ دّنيا،"حَنَاجِرُهُم قُبُورٌ مُفَتَّحَة، وبِأَلْسِنَتِهِم يَمْكُرُون، وسُمُّ الأَفَاعِي تَحْتَ شِفَاهِهِم. أَفْوَاهُهُم مَمْلُوءَةٌ لَعْنَةً ومَرَارَة. وأَرْجُلُهُم سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاء. وفي طُرُقِهِم خَرَابٌ وَدَمَار. ومَا عَرَفُوا طَرِيقَ السَّلاَم. ولَيْسَتْ مَخَافَةُ اللهِ أَمَامَ عُيُونِهِم"(روم3: 13-18). والجميع باعتقادهم النّاقص، هُم في ميزان الشُّبهة، فيما هُم وحدهم الخالون من العُيوب، الصّالِحون الطّاهرون، الأبرار الأنقياء، مُستقيموا التّفكير والسّلوك!.

هكذا وقف الفرّيسيّ في الهيكل أمام الله مُدّعياً النّزاهة والإستقامة، شاكراً إيّاه لأنّه ليس كسائر الناس "الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ" الخسيس الدّنيء(لو18: 11). وهؤلاء يقفون الموقف نفسه من إخوتهم، فيُشبِهون بذلك القبور المطليّة بالكِلس؛ يَدَّعون الإستقامة من الخارج وهُم في داخِلِم سُوس ناخِر ودودٌ مُلتهِم و​رائحة كريهة​ وعِظامٌ وأوساخ(متى23: 27)، وسُمٌّ يتسلّل إلى باطن أفكار وأرواح صغار النّفوس، فيُسمّمها ويُزيغها عن الحقّ.

وأبشَع ما في هؤلاء القاينيّين أنّهم يقتبسون الكتب المقدّسة والقيَم الأخلاقيّة والإنسانيّة لتبرير جرائمهم، وجعلها في خدمة غاياتهم الوسِخة وساخة قلوبهم. فليسمح لنا هؤلاء بهديّة لهم من حديقة الإنجيل المُقدّسة، لعلَّهم يتّعِظون.

تقول النّصوص المُقدّسة: "سَمِعْتُم أَنَّهُ قِيلَ لِلأَقْدَمِين: لا تَقْتُلْ. ومَنْ يَقْتُلْ يَسْتَوْجِبْ حُكْمَ القَضَاء. أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُم: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلى أَخِيهِ يَسْتَوجِبُ حُكْمَ القَضَاء. ومَنْ قَالَ لأَخِيه: يَا أَحْمَق! يَسْتَوجِبُ حُكْمَ الـمَجْلِس. ومَنْ قَالَ: يَا كَافِر! يَسْتَوجِبُ نَارَ جَهَنَّم"(متى5: 21-22). مَن يقتُل يستوجب حُكم القضاء، ومَن يتجرأُ على أخيه في صيته وكرامته يستوجب حُكم الأرض وحُكم السّماء، لأنّ قتل الصّيت أشدّ فتكاً من قتل الجسد، فاتّعِظوا.

وتقول أيضاً: "قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ أَحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا مَـحبَّةً ثَابِتَة، لأَنَّ الْمَحبَّةَ تَسْتُرُ جَمًّا مِنَ الـخَطايَا... فَلا يَكُونَنَّ فِيكُم مَنْ يتَأَلَّمُ لأَنَّهُ قَاتِلٌ أَو سَارِقٌ أَو فَاعِلُ شرٍّ أَو مُتَطَفِّلٌ عَلى الغَير"(1بط4: 8و15). المحبّة تَستر خطايا الإخوة ولا تفضَحها. لِماذا؟ لأنّنا كُلُّنا خطأة و"لَيْسَ بَارٌّ ولا وَاحِد... كُلُّهُم زَاغُوا، وفَسُدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَفْعَلُ الصَّلاحَ وَلا وَاحِد"(روم3: 10-12). ولهذا فإنّنا كلّنا بحاجةٍ إلى مَن يَستُرَ لنا عُريَنا. وقد سَتَر الربّ يسوع عُريَنا بتعرّيه على الصّليب من أجلِ خلاصِنا. ولِماذا تسترُ المحبّة أيضاً خطايا كثيرة؟ لأنّ"الـمَحَبَّةُ تتَأَنَّى وتَرْفُق... ولا تَأْتِي قَبَاحَة... ولا تَظُنُّ السُّوء، ولا تَفْرَحُ بِالظُّلْم، بَلْ تَفْرَحُ بِالـحَقّ"(1قور13: 4-6)، فاتّعِظوا.

وتقول النّصوصُ أيضاً: "لا تَدِينُوا لِئَلاَّ تُدَانُوا. فَبِمَا تَدِينُونَ تُدَانُون، وبِمَا تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُم" (متى7: 1). لِماذا؟ لأنّ الدّينونة هي "للربّ فاحِصُ القلوب والكِلى"(إر17: 10أ)، العارف ما في باطن الإنسان كونه خالقه ومُخلّصه، والمُفرِّق بين الخير والشّر. ولهذا فهو وحده "يُعطي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ"(إر17: 10ب). الله وحده يعرف حقيقةً ما في داخل الإنسان، والإنسان بدوره يعرف أنّ باطنه مملوءٌ خطفاً وظُلماً وشرّاً، ويُدرِك أنّه لولا رحمة الله الواسِعة ورأفته بِه، لَما خلُص أيّ واحِد؛ لأنّ الله لا يُعامِلُنا بحسب عُصياننا بل بحسب رحمته، فاتّعِظوا.

وتدعو النّصوص المُقدّسَة مَن أراد أن يُصلِح ما في غيره، إلى أن يُصلِحَ ما في نفسه أوّلاً، ومن ثُمَّ يذهَبُ إلى لِقاء أخيه في كامل المحبّة والغيرة لكي يُساعِده في إصلاحِ نفسه، تقول: "مَا بَالُكَ تَنْظُرُ إِلى القَشَّةِ في عَيْنِ أَخيك، ولا تُبَالي بِالـخَشَبةِ في عَيْنِكَ؟ بَلْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيك: دَعْني أُخْرِجُ القَشَّةَ مِنْ عَيْنِكَ، وهَا هِي الـخَشَبَةُ في عَيْنِكَ أَنْتَ؟ يا مُرائِي، أَخْرِجِ الـخَشَبَةَ أَوَّلاً مِنْ عَيْنِكَ، وعِنْدَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا فَتُخْرِجُ القَشَّةَ مِنْ عَيْنِ أَخِيك"(متى7: 1-5). نَعَم، المُرائي وحده، أيّ الكاذب المُخادع، هو الذي يبدأ بشكلٍ مُعاكس، لأن لا سُلطة له على نفسه، فيبدأ بالتّسَلُّط على الآخرين، إخفاءً لِما في نفسه من شرّ، فاتّعِظوا.

أن يُشَهَّر ويُنَكَّل بالإنسان أمام الملأ، أمرٌ لا محبّة فيه. وما هو خالٍ من المحبّة، خالٍ من الأناة والرّفق، ومليء بالمرارة والظُّلم والقباحة والسّوء، فاتّعِظوا.