مجدّداً، نجح رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ في كسر الرتابة والجمود اللذين يطبعان الحياة السياسية في ​لبنان​ في فترة الأعياد، فاستطاع عبر تصريحاته المثيرة للجدل حول هوية ​مزارع شبعا​ وغيرها، أن يشغل اللبنانيين، فاتحاً بذلك نقاشاً قد لا ينتهي في القريب العاجل.

قيل الكثير عن هذه التصريحات وخلفيّاتها، إذ اعتبرها البعض محاولة استقراء جديدة من "البيك" تمهيداً للنسخة اللبنانية من "صفقة القرن"، وقرأ فيها البعض الآخر "فشة خلق"، أو ربما "انتقاماً" موجّهاً بشكلٍ خاص إلى "​حزب الله​" الذي لا يزال يقاطعه لسببٍ يعتبره "تافهاً"، ربطاً بمعمل ​عين دارة​ وقرار وزير الصناعة في شأنه.

لكن، أبعد من هذا وذاك، ثمّة في الدائرة المقرّبة من "البيك" من يقول إنّ الأخير ليس بوارد التراجع عن مواقفه، أو تقديم أيّ تنازل على وقع الضغوط كما يفعل غيره، وأنّ الحملة "التخوينيّة" التي يتعرّض لها على خلفيّة تصريحاته الأخيرة تدين الآخرين ولا تدينه، أياً كان الشكل الذي ستتّخذه في القادم من الأيام...

"فشة خلق"

صحيحٌ أنّ جنبلاط والمقرّبين منه يرفضون ربط تصريحاته الأخيرة، والتي قال فيها إنّ مزارع شبعا غير لبنانية برأيه، في تناقضٍ واضحٍ مع تصريحاتٍ كان قالها بنفسه على امتداد مسيرته السياسية، بالعلاقة "المتوتّرة" مع "حزب الله"، إلا أنّها فُسّرت في مكانٍ ما على أنّها تندرج في إطار التصويب المباشر على "الحزب"، في سياق "القطيعة" القائمة بينهما.

أكثر من ذلك، خرج من يضع مواقف "البيك" المعروف عادةً باستقرائه المسبق للأحداث، بأنّها "فشّة خلق" أراد تسجيلها في وجه "الحزب" وحلفائه، وبالتالي يمكن أن تكون بمثابة رسالة "مشفّرة" بأنّ كلّ الخيارات مُتاحة أمام جنبلاط للتعبير عن "امتعاضه" من سلوك الحزب معه، بما فيها ما يرتبط بما يُعتقد أنّها "ثوابت"، على غرار لبنانيّة المزارع، ما من شأنه التمهيد لإعادة فتح النقاش حول السلاح والجدوى منه.

وتنطلق هذه القراءة من وجود "امتعاض" قوي لدى جنبلاط من استمرار "القطيعة" مع "حزب الله"، من دون أيّ أفق واضح، وهو حتى الآن ليس قادراً على استيعاب أسباب "نقمة" الحزب عليه بسبب قرار إجرائي متعلق ب​وزارة الصناعة​، في حين كان يتجاوز في السابق خلافات عميقة من النوع الحسّاس، بل ما يرتبط بالقضايا الاستراتيجية والوجودية التي يؤمن بها الحزب، بل تُعتبَر علّة وجوده.

وربطاً بذلك، لا شكّ أنّ "فشة خلق" جنبلاط ليست موجّهة إلى "حزب الله" حصراً، بل تمتدّ إلى حلفائه، ولا سيما "​التيار الوطني الحر​"، في ضوء ما يعتبرها "البيك" محاولات لـ"تقزيمه" داخل بيته الدرزيّ، من خلال الإيحاء وكأنّ "زعامته" لم تعد مطلقة، بل باتت محطّ جدال، وهو يطرح علامات استفهام بالجملة عن "استقواء" خصومه على الساحة الدرزيّة، الذين كانوا حتى الأمس القريب يقدّمون له الولاء والطاعة فرادى، فإذا بهم يتكتّلون اليوم في محاولةٍ لمواجهته في عقر داره.

قراءة "قاصرة"؟!

بطبيعة الحال، لا تلقى قراءة "فشّة الخلق" هذه، على رغم أنّها تقوم في جزءٍ منها، على وقائع ومعطيات ملموسة، آذاناً صاغية بالنسبة إلى المقرّبين من "البيك"، الذين يعتبرون أنّها تبقى "قاصرة"، خصوصاً أنّها تنطلق من برودة داخلية محدودة، لا قيمة لها في مقاربة أزمات الإقليم، في ظلّ مرحلةٍ حسّاسة كالتي نعيشها اليوم، وفي ضوء "الاستنفار" بانتظار رفع الولايات المتّحدة الستار عن خطتها لما تصفه بالسلام، والمعروفة باسم "صفقة القرن"، وهو ما يرجَّح حصوله بعد شهر رمضان.

وإذا كان كثيرون وضعوا تصريحات "البيك" في إطار هذه "الصفقة"، وأوحوا وكأنّ الأخير قد يكون هو عرّاب هذه الصفقة لبنانياً، وبالتالي فإنّ تصريحاته قد تكون مدفوعة الثمن، خصوصاً أنّ علاقته بالجانب الأميركي حالياً وسابقاً ولاحقاً لا تشكو من أيّ شائبة، فإنّ ثمّة في "الحزب التقدمي الاشتراكي" من يطرح وجهة نظر أخرى، تقوم على أنّ جنبلاط قد يكون أطلق مثل هذا التصريح، لحماية مزارع شبعا إن كانت لبنانيّة بالفعل، قبل إسدال الستار عن "صفقة القرن".

ويشرح أصحاب وجهة النظر هذه رأيهم بأنّ ما قاله جنبلاط حول لبنانيّة المزارع ليس فقط من بنات أفكاره، بل هو أصلاً الحقيقة المعترف بها دولياً، ومن جانب الأمم المتحدة، باعتبار أنّ المزارع مسجّلة في الخرائط الأمميّة على الجولان السوري، والذي سبق أن أعلنت الإدارة الأميركيّة ما أسمتها بـ"السيّادة الإسرائيليّة" عليه. وبهذا المعنى، فإنّ "البيك" قد يكون أثار الجدل عن سابق تصوّر وتصميم، ليقول إنّ موضوع لبنانيّة المزارع يجب أن يُحسَم سريعاً وقبل فوات الأوان، وهذا الأمر لا يحصل إلا من خلال اعتراف سوري رسمي بذلك، لا بالأقوال المعسولة، بل بالأفعال، من خلال ترسيم واضح للحدود لا يترك مجالاً للبس كما هو حاصل اليوم.

ولا يتوقّف "الاشتراكيّون" عند ما أثير عن "تناقض" جنبلاط مع نفسه، باعتبار أنّ تصريحه الأخير تقابله تصريحاتٌ مناقضة بالجملة له، انتُزِعت من الأرشيف، ليس لأنّ الرجل اعتاد "الانقلاب" على مواقفه، كما يحلو للبعض القول، ولكن لأنّ الأرشيف غنيّ بالمواقف المناقضة لآخرين، ومنهم رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، الذي انتزع "الاشتراكي" تصريحاً له في العام 2002 يقول فيه إنّ مزارع شبعا ليست لبنانيّة، على رغم أنّ الظروف كانت مختلفة ومغايرة.

بيد أنّ ما يتوقّف عنده "الاشتراكي" هو أنّ الحملة "التخوينيّة" التي تعرّض لها جنبلاط على خلفيّة تصريحاته الأخيرة، والتي وصلت بالبعض إلى حد "تحليل دمه"، كافية لدفعه إلى عدم التراجع، بل المضيّ إلى الأمام، في المواجهة التي يخوضها مع "العهد" و"حزب الله" وغيرهما. ومن هنا، يقول "الاشتراكيون" إنّ المسألة أصبحت بمثابة "دفاع عن النفس" ليس إلا، خصوصاً بعدما "نبش" البعض ما "نبش"، مستعيداً مصطلحات "الغدر" وما شابه لإلصاقها بجنبلاط، متناسياً ما يشبه "الحلف" الذي تمّ تكريسه على مرّ السنوات.

أبعد من التجييش...

قد لا تكون المرّة الأولى التي يطلق فيها جنبلاط مواقف مثيرة للجدل كالتي أطلقها أخيراً، سواء في ما يتعلق بمزارع شبعا، أو الأزمة السورية، أو غيرها. وقد لا تكون المرّة الأولى أيضاً، التي يطلق فيها جنبلاط مواقف تناقض ما سبق أن أطلقه، هو الذي عُرف على امتداد مسيرته بتعدّد الانعطافات والانقلابات.

إلا أنّ الأكيد أنّ المطلوب اليوم مقاربة مواقف "البيك" وغيره بروحيّة مختلفة، روحيّة تبتعد عن التوتير والتجييش والتعبئة والتخوين كما هو حاصل، من الطرفين على حد سواء، لتصل إلى العمق، خصوصاً أنّ الجانبين المتخاصمين يتوافقان على التحذير ممّا يُحاك للمنطقة والإقليم، تحت عناوين "صفقات" قد لا يكون لبنان بمنأى منها بأيّ شكلٍ من الأشكال...