قيل الكثير في الإعلام عن الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجيّة إلى مقر حزب "الكتائب" في الصيفي، واللقاء "الودّي" الذي جمعه مع رئيس الحزب النائب ​سامي الجميل​، والذي خرج بعده الرجلان ليتحدّثا عن تفاهمات وتوافقات وربما أكثر.

حُمّلت هذه الزيارة برأي كثيرين أكثر ممّا تحتمل، خصوصاً أنّ التقارب بين "المردة" و"الكتائب" ليس مستجداً، بل بدأ منذ ما قبل ​الانتخابات الرئاسية​ الماضية، وخصوصاً بعد اشتداد المعركة بين "المردة" و"​التيار الوطني الحر​"، وإن كانت المرة الأولى التي يزور فيها فرنجية مقر "الكتائب" في الصيفي في ظلّ رئاسة الجميل له.

لكن، أبعد من الظاهر، تكمن أهمية هذه الزيارة بحسب بعض ما بدأ يتسرّب، في كونها تشكّل جزءاً من "استراتيجية جديدة" يستعدّ "المردة" لإطلاقها، تحضيراً لسباق الرئاسة المقبل، والذي يبدو أنه يستعدّ لخوضه على قاعدة المنافسة الحامية مع "الوطني الحر" ورئيسه الوزير ​جبران باسيل​.

تموضع في الوسط

لا شكّ أنّ لزيارة فرنجية الأخيرة إلى مقرّ "الكتائب" في الصيفي "رمزية" معيّنة، تكاد تضاهي في الأهميّة بعض التفاصيل التي أحاطت باللقاء مع الجميّل، على غرار حضور النائب نديم الجميّل اللقاء، بعدما كان قد طوى في الآونة الأخيرة خلافاً وصفه بـ"السياسي" استمرّ 40 عاماً، وذلك على رغم "الفتور" القائم بينه وبين قيادة "الكتائب"، منذ المؤتمر العام الأخير للحزب، وما تسرّب من تصريحاتٍ للأخير انتقد فيها بشدّة سياسات ابن عمّه.

وفي وقتٍ قرأ كثيرون الزيارة إلى الصيفي بحدّ ذاتها كمؤشر على حرص الجانبين على تعزيز العلاقات ونقلها إلى مستوى أعمق وأشمل، فإنّ التصريحات التي أدلى بها كل من فرنجية والجميل بعد اللقاء صبّت في الغاية نفسها، إذ قفز الرجلان على خلافاتهما الاستراتيجية، وهي كثيرة بالمناسبة، ليركّزا على "المشتركات"، والتي تبدو قليلة حتى إشعارٍ آخر، بل يكاد البعض يحصرها بالخلاف مع "التيار الوطني الحر"، لا أكثر ولا أقلّ.

ولعلّ الدليل الأوضح على ذلك قول فرنجية إنّه في الحكومة، "ولكن لنا موقفنا"، ما فُسّر في مكانٍ ما وكأنّه محاولة للقول إنّه وبقدر قربه من الموالاة التي يفترض أن يكون جزءاً منها، إلى جانب العديد من حلفائه، فهو قريبٌ أيضاً من المعارضة التي يمثلها "الكتائب" بالدرجة الأولى، إلى جانب عددٍ من المستقلّين. ولا شكّ أنّ تشريع فرنجية بشكلٍ أو بآخر لهذه المعارضة، ليس مصوّباً بوجه حلفائه، أيّ "​حزب الله​" و"​حركة أمل​"، ولا حتى "​تيار المستقبل​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، بل "التيار الوطني الحر" حصراً.

وإذا كانت الاشتباكات التي تكاد لا تنقطع بين "المردة" و"الوطني الحر" داخل وخارج الحكومة تعزّز مثل هذا الانطباع، فإنّه يمكن القول إنّ فرنجيّة يسعى بشكلٍ أساسيّ، إلى تكريس تموضعٍ خاص ومختلف له في الوسط، بين الموالاة والمعارضة، ما يحفظ له "حرية في التصرف" قد يكون بحاجة إليها في المرحلة المقبلة، بعيداً عن أيّ قيود أو ضغوط ذاتية يمكن أن يفرضها على نفسه، خصوصاً أنّ كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّه وضع سباق الرئاسة نصب عينيه، لردّ الاعتبار قبل أيّ شيءٍ آخر.

انفتاح ولكن...

ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن تكشّف ملامح "الاستراتيجيّة الجديدة" التي بدأها "المردة"، في ظلّ منافسة قد يعتبرها البعض "غير متكافئة" مع الوزير جبران باسيل، باعتبار أنّ الأخير حاضرٌ بقوة وبديناميّة في الحركة السياسية، من خلال جولاتٍ ماراتونيّة يقوم بها بين الفينة والأخرى، مستفيداً من موقعه الوزاريّ والحزبيّ، في حين أنّ فرنجية يغيّب نفسه عن المشهد، بل إنّه قد يغيب أسابيع عن الصورة، من دون أن يُرصَد له نشاطٌ فعليّ، بعيداً عن تغريدةٍ من هنا، أو لقاءٍ من هناك، يخرق من خلالهما صمته.

وإذا كان "عدم التكافؤ" هذا مبنياً على مقاربة كلّ منهما للعمل العام، واستحقاق الرئاسة بصورة خاصة، باعتبار أنّ فرنجية يعتقد أنّ كلّ الجولات التي يقوم بها باسيل لن تصنع منه رئيساً، بل إنّ السرّ يكمن في بناء العلاقات أولاً، في الداخل والخارج، وخصوصاً لدى القوى والمرجعيات المؤثّرة والفاعلة. ولذلك، فهو يحرص على تمتين علاقته بالقوى السياسية الأساسية، وفي مقدّمها "حزب الله" الذي يربطه به حلف استراتيجي لم يتزعزع على رغم عدم دعم الأخير له في الانتخابات الرئاسيّة الماضية، وكذلك "تيار المستقبل" الذي يصرّ "المردة" على تجاوز خلافاته وتطوير علاقته معه، بناءً على "الصداقة" التي أرساها فرنجية سابقاً مع رئيس الحكومة سعد الحريري.

وفيما يراهن فرنجية على دعم هذه الأطراف له في السباق الرئاسي المقبل، إضافة إلى قوى أخرى ستفضّله على باسيل، إذا ما كانت المنافسة محصورة بينهما، على غرار "حركة أمل" برئاسة رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، وكذلك "الحزب التقدمي الاشتراكي" برئاسة ​وليد جنبلاط​، فإنّه يراهن على استقطاب "الخصوم" ناحيته في هذه الحال أيضاً، و"الخصوم" هنا لا يقتصرون على حزب "الكتائب"، بل ثمّة من يقول إنّ فرنجية بات مقتنعاً بأنّ رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" ​سمير جعجع​ نفسه جاهزٌ لـ"مبايعته" نكايةً بباسيل.

ولعلّ ملامح "الاستراتيجية الجديدة" لـ"المردة" تكمن خلف ما سبق بالتحديد، إذ تقوم على تفعيل حضور "المردة" في الساحة السياسية، وتعزيز الانفتاح على الخصوم في آن، استعداداً للسباق الرئاسي المقبل. وفي هذا السياق، ثمّة من يؤكد أنّ الزيارة إلى الصيفي لم تكن سوى الحلقة الأولى من مسار انفتاحي جديد، سيقود "المردة" إلى العديد من الخصوم، بغية تحصين ورقته الرئاسيّة باكراً، من خلال بناء علاقاتٍ يعتقد أنّها ستمنحه نقاط قوة في المعركة، وإن كان يدرك في قرارة نفسه أنّها وحدها لن تكون كافية، في صراعٍ يتحكّم به الخارج قبل الداخل، مهما قيل ويُقال وسيُقال.

بين الانفتاح والتنازل

قال فرنجية في حديث تلفزيوني أخيراً، إنّه مرشّح للرئاسة، "ولكن هذا لا يعني أننا سنقدّم تنازلات لكي ننال رضى أحد، فسياساتنا ثابتة ولن تتغيّر".

لعلّه أراد بذلك أن يقول بوضوح إنّ الانفتاح على الخصوم شيء، والتنازلات التي يصرّ على أنّها لم تكن يوماً في قاموسه، شيء آخر. ولعلّه أراد أن يطمئن حلفاءه قبل غيرهم، أنّ انفتاحه على "القوات" و"الكتائب" وغيرهما في إطار استراتيجيته الجديدة، لا يعني أنّه سيحيد عن القناعات والثوابت الاستراتيجية.

لكن، أبعد من هذا وذاك، يقول البعض إنّ "الثابت" في سياسات "بيك زغرتا" هذه الأيام ليس أكثر من "الخصومة" التي باتت ترتقي لمستوى "العداوة" مع "التيار الوطني الحر"، ما يجعله قريباً تلقائياً من كلّ خصوم "التيار"، ولو على حساب نفسه وحلفائه، ليبقى "الثابت" الحقيقيّ الوحيد وسط كل هذه المعمعة، أنّ هذه المعارك والاشتباكات لن تتوقف، أقله حتى يدقّ جرس استحقاق الرئاسة، ويذوب الثلج ويبان المرج...