عثرت على ورقة في خزانة النائب ال​لبنان​ي المرحوم فريد جبران أنّه زار الرئيس ​فؤاد شهاب​ للقيام بواجب التهنئة بعد إنتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية، وقدّم إليه مذكّرة مطلبية مشكولة أدرج فيها العديد من الملفات والقضايا الإجتماعية المرتبطة بالفقراء والمعوزين مثل المكتب الوطني للدواء وقوانين الإيجارات والتعليم المجاني وإصلاح الإدارات وغيرها من المسائل المزمنة والشائكة والتي لم تجد طريقها إلى القرار في ​تاريخ لبنان​ والتي أفنى النائب المرحوم حياته وهو يناضل من أجلها في الندوة البرلمانية سواء أكان في إطار ​الحزب التقدمي الإشتراكي​ الذي كان أحد مؤسسيه مع الزعيم ​كمال جنبلاط​ أم في الأطر النقابية والعمالية المتنوعة. وكان الجواب المعبّر للرئيس شهاب الذي خاطبه على الفور:

"لقد خلصنا من الإستعمار الخارجي، ولكن المهم أن نبدأ ورشة التخلص من الإستعمار الداخلي".

قال: ماذا تقصد؟

أجاب: الفاسدون هم أسياد الإستعمار الحقيقي.

أطرح هذه الورقة محاولاً عصر جبال الكلام والنصوص المتشظيّة والتائهة في موضوع ​الفساد​ لأهمس بأنّ الرئيس شهاب الضابط الذي خرج من المعجن العسكري إلى ​قصر بعبدا​ رئيساُ للبنان هو الذي أرسى بعض الدعائم الحقيقية لمحاربة هذا الإستعمار. لا داعي للإسترسال في تدوين منجزاته الكثيرة ونضالاته الضخمة في التغيير ومعاناته الضخمة إزاء "المستعمرين" الداخليين، بل أكتفي بالإشارة إلى قصّة أخرى معروفة ومعبّرة:

قام الرئيس فؤآد شهاب قبل أن يغيّبه القدر بأيّامٍ خمسة بإخبار الضابط الذي كان يرافقه أنّه أقدم للتاريخ في 21 نيسان 1973 وهو في حالة قنوط شديد على ​السياسة​ والسياسيين في لبنان من حرق صناديق ثلاثة تحتوي الكثير من الأفكار

والأوراق والأسرار والتقارير والملاحظات والوقائع والمراسلات التي تختصر ربّما زبدة القهر في عهده وقناعاته وألمه من رجال "الإستعمار" في الداخل. لقد أورد الكاتب جورج ناصيف في مؤلفه " جمهورية فؤآد شهاب" هذه الواقعة مضيفاً إليها شهادة السيّدة الأولى Rose René روز رينيه زوجة فؤآد شهاب التي أسرّت للكاتب:" لقد أحرق كلّ أوراقه ولم يبق على ورقة كي لا يكذب، لأنّه لا يستطيع أن يكتب كلّ ما يعرفه الناس. وأضاف بأنّ الناس لن يصدّقونا يا روز.

أخرج من هاتين الواقعتين المعبّرتين إلى نماذج من القادة البعيدين والغائرين في تاريخ بناء بعض الدول مقابل معاناة القادة الأقربين ومكابدتهم مع السياسيين في بناء أو إعادة لبنان تلك الزهرة La Rose المشكولة بديمقراطيتها والنافذة الملوّنة في الجدار العربي وفقاً لحبر الكاتب المصري الكبير ​محمد حسنين هيكل​. أعني بالقريبين الرؤساء الذين خرجوا بعد فؤآد شهاب ومثله من المدرسة العسكرية إلى القصر الرئاسي في لبنان والحكم وأعني بهم إميل لحّود و​ميشال سليمان​ و​ميشال عون​ وقد يمكن إختصار عهودهم بمناخ من التجاذب المعقّد بين العقل السياسي والعقل العسكري، وهو ما لن نلمسه بهذه الحدّة عبر فلش نماذج من التاريخ.

كيف؟

أعود إلى الإسكندر المقدوني" ذو القرنين" ضابطاً عصر أرسطو وعصارة الفكر الإغريقي وحمله ليبشّر به في بلاد فارس و​العالم​. أليس لهذا الفكر المقيم في جامعات العالم وتاريخه مؤشّر على تلك صلة التي دمغتها ​اليونان​ بضرورات التربية العسكرية والبدنية لأبنائها من أجل صحة اليونانيين كأمة ناشرةً الفلسفة في التاريخ؟ ما أن استوينا أمام المستشرق الفرنسي جاك بيرك في مدارج الكوليج دو فرانس العريق حتى باشر في محاضرته الأولى: قال أرسطو وتابع رابطاً بينه وبين الأسكندر. قال أرسطو منذ 2500 سنة وهو مستمر والإسكندر مثالاً حتى تعب التأريخ.

أيجوز حذف التأريخ لعصر النهضة العربية في العام 1789 مع دخول الضابط نابليون بونابرت الى مصر متناولاً الحرف المطبوع من حاضرة ​الفاتيكان​ ليزرعه مطبعةً أولى في بولاق؟ إنّه وعلى الرغم من الإعتراضات المنهجية الكثيرة التي تناولت بالنقد والرفض والتغيير لهذا التاريخ من قبل باحثين في الفكر السياسي والآداب، فإن نابليون يحتل مرتبة قائمة في التاريخ الإنساني من حيث قدرته على

إحداث انقلاب فعلي في الفكر والحضارة، طبعاً من دون إهمال الفكرة أنّ نابليون جاء مضمّخاً بفلسفات "عصر الأنوار" الواضع أحجار الحرية والإخاء والمساواة والعدالة المكلفة قبل تحقيقها. أليس الضابط ايزنهاور رئيس ​الولايات المتحدة الأميركية​ صاحب العهد الذهبي في إخراج بلاده بشكل واسع نحو العالم، والقائل أنّ أي رئيس لن يدرك مكانته، ولا يكتمل تاريخه إلاّ بإعلان نهجه الصارم الخاص لإشاعة الأفكار الأميركية في العالم؟ ماذا عن الضابط العربي ​جمال عبد الناصر​ الذي دمغ الأحلام العربية بنبرته الرائعة والصلبة في الوحدة والقوة العربية؟

والإستعمار الداخلي في أبسط تعريف له هو الطائفية و​المحاصصة​ الحزبية والرشوات والسمسرات والمحسوبيات والإستزلام وما ينتج عنها من يأسٍ تقيح به وسائل الإعلام في المحيط. لا مغالاة في ضمور الأمل بورشة تقضي على الفساد لأنّ عقلين لم يتآلفا في الحكم ومفاهيم الإصلاح عقل يحكم لبنان بكونه عقار قديم له مالكوه القدامى وعقل عسكري أو متجدّد مدني يكابد بدوره، بهدف التخلّص من هذا الإستعمار الداخلي الذي نغّص الرئيس فؤآد شهاب، بالرغم من فتحه أوّل ثغرة واسعةً في الإدارات ومحاربة الإمتيازات الحصرية التي جعلت السلطة المغمّسة بالطائفية متشظية على التجار وأصحاب المصالح و"ومقتسمي الجبنة". وأكاد أجازف بالقول أنّ تلك الثغرة سدّت في وجه الأجيال والآفاق في إنتظار غودو أو ما لسنا ندري.