من مُفاوضات جنيف، مُرورًا بالعديد من جولات التفاوض الأخرى في العديد من المُدن والعواصم في العالم ومنها "سوتشي"، وُصولاً إلى مفاوضات آستانا التي من المُفترض أن تنعقد جولتها التالية في تمّوز المُقبل(1)، سنوات طويلة من المُفاوضات التي تدخّلت فيها العديد من الدول الإقليميّة والدَولية، من دون أن تنجح سوى في التوصّل إلى إجراءات جزئيّة ومحصورة جغرافيًا، من دون أن تطوي صفحة الحرب. لكن وبعد أشهر طويلة من الهُدوء النسبي في ​سوريا​، عادت المعارك العنيفة من جديد إلى ما تبقى من جبهات تفصل بين الجيش السُوري والقوى الحليفة له من جهة، والجماعات المُسلّحة المُعارضة له. فما الذي يحدث؟.

في أكبر تصعيد عسكري تشهده سوريا منذ الصيف الماضي، يشنّ الجيش السُوري والوحدات العسكريّة غير النظاميّة الداعمة له، هجمات مُتصاعدة على مواقع الجماعات المُسلّحة في مُحيط مُحافظة إدلب(2)، وتحديدًا في البلدات والقرى في شمال حماة وعلى أجزاء مُحدّدة من جنوب إدلب. وقد برّر النظام السُوري هذا التطوّر العسكري، بالحديث عن ردّ فعل على هجمات وإستفزازات تعرّض لها الجيش السُوري، من قبل الجماعات المُسلّحة في الأسابيع القليلة الماضية، في حين أنّ هذه الأخيرة إتّهمته بالعمل على مُحاصرة إدلب بشكل كامل، تمهيدًا لإسقاطها عسكريًا، في تكرار للسيناريو الذي كان جرى تطبيقه بنجاح في حلب أواخر العام 2016. وقد دخلت أكثر من دولة على خط المُناشدات الداعية إلى وقف هذا التصعيد، لا سيّما تركيا التي رأت فيه تجاوزًا خطيرًا للإتفاقات السابقة، الأمر الذي يُنذر بسُقوط أيّ فرصة للتسوية السلميّة في سوريا في المُستقبل.

إشارة إلى أنّ التفاهمات الروسيّة–التركيّة كانت قضت بإنشاء ​منطقة منزوعة السلاح​، مع تحديد أماكن كان على الجماعات المُسلّحة المُعارضة للنظام السُوري الإنسحاب منها برعاية تركيّة، على أن تحظى أنقره في المُقابل بمناطق نُفوذ في الشمال الغربي. لكن في المرحلة الأخيرة، إتهمت سوريا المُسلّحين بخرق كل الإتفاقات وبشن هجمات ضُد مواقع ​الجيش السوري​، واعتبرت روسيا أنّ تركيا تقاعست عن تنفيذ ما أنيط بها من مهمّات، في مُقابل إتهام تركيا الجيش السُوري بخرق الإتفاقات وبالعمل على إسقاط إدلب عسكريًا.

ميدانيًا، لم يتم بعد إطلاق أيّ هُجوم شامل على مُحافظة إدلب التي تُمثّل الجيب الأخير للمُعارضة والذي تُسيطر "​هيئة تحرير الشام​" على نحو 70% من مساحته، لكنّ الأكيد أنّ الجيش السُوري والقوى الحليفة يتحرّكون بشكل مُنظّم ومدروس من الناحية العسكريّة في الجزء الجنوبي من أراضي المُعارضة–إذا جاز التعبير، بما في ذلك المنطقة المُصنّفة "مَنزوعة السلاح" بحسب إتفافات آستانا. وبحسب التحاليل العسكريّة الخاصة بتطوّرات الوضع الميداني في إدلب، فإنّ هدف الجيش السُوري الحالي هو السيطرة على الأجزاء الجنوبيّة والغربيّة من الأراضي التي تسيطر عليها المُعارضة في المُحافظة، وقطع بعض الطُرقات الرئيسة في المنطقة ("أم 4"، و"أم 5") لفتح خط تواصل بين مدينة اللاذقيّة ومدينة حماة، وذلك من دون مُهاجمة مدينة إدلب في المرحلة الراهنة. ومن الأهداف التكتيّة أيضًا، قطع خُطوط تحرّك وإمداد الجماعات المُسلّحة بين ريفيّ حماة وإدلب، حيث يسعى ​النظام السوري​ إلى إسترداد ريف حماة الشمالي وكذلك الريف الشمالي الغربي المُتاخم لمُحافظة إدلب.

وتركيا التي تخشى تدفّق موجة جديدة من ​اللاجئين​ السوريّين إلى أراضيها في حال إستمرار الهجوم الحالي وتوسّع نطاقه، لا تزال حتى الساعة في موقف المُحذّر والمُطالب بوقف التصعيد، علمًا أنّ ما يحدث يدخل في جانب كبير منه في خانة التجاذبات الروسيّة–التركيّة على تقسيم مناطق النُفوذ في سوريا، وعلى الإمساك بأكبر قدر مُمكن من أوراق التفاوض في الملف السُوري(3)، خاصة وأنّ تركيا تُعطي عناية قُصوى للمنطقة الواقعة شرقي ​الفرات​ والتي تُسيطر عليها الوحدات الكرديّة، بينما روسيا التي تُساند الهجوم الحالي بضربات جويّة متفرّقة، تستخدم المعركة القائمة، لرفع مُستوى الضغط عشيّة جولة مُقبلة من المفاوضات، خاصة وأنّها مُمتعضة من عدم تنفيذ تركيا لإلتزامات سابقة.

في الختام، لا شكّ أنّ سُقوط إدلب–في حال حُصوله، يُمثّل بالنسبة إلى النظام السُوري الإنتصار الكامل والنهائي بعد ثماني سنوات على الحرب في سوريا، لكنّ الأمر ليس سهلاً وهو بالتأكيد باهظ الكلفة، نتيجة إنتشار عشرات آلاف المُسلّحين الذين لا يملكون أيّ خيار آخر سوى القتال حتى الرمق الأخير دفاعًا عن مواقعهم الوحيدة المُتبقّية. وبالتالي، على الأرجح انّ المعارك الحالية لا تهدف إلى إسقاط إدلب، بقدر ما هي لتعزيز أوراق التفاوض، من جانب النظام السُوري، ومن خلفه روسيا، خاصة وأنّ الخلافات الأميركيّة–التركيّة جعلت هذا الثُنائي في موقع ضعف على الساحة السُوريّة، وشجّعت كل من سوريا وروسيا على إستغلال هذه الثغرة لتحسين شروطها.

1-الجولة الأولى من مفاوضات آستانة عُقدت في 23 كانون الثاني 2017، والجولة رقم 12 الأخيرة حتى تاريخه، عُقدت في 25 نيسان الماضي.

2-تقع مُحافظة إدلب في شمال غرب سوريا، وهي المُحافظة الوحيدة التي لا تزال خارجة كليًا عن سيطرة النظام السُوري، ويُقدّر عدد سُكانها حاليًا بنحو 3 ملايين نسمة، بما فيهم الكثير من النازحين السوريّين من خارجها.

3-كان كلّ من الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​ ونظيره التركي رجب طيّب أردوغان إتفقا في أيلول الماضي على الإشراف بشكل مُشترك على منطقة منزوعة السلاح تصل إلى عمق 15 كلم. للفصل بين القوى المُتقاتلة.