قد تختلف مع البطريرك الراحل ​مار نصرالله بطرس صفير​ أو تتفق معه، لكن الاكيد انّ الرجل كان يحظى بالاحترام لدى الخصوم والأصدقاء. وبهذا المعنى، فإنّ تجارب أولئك الذين كانوا على خصومة سياسية معه لا تقل «غِنى» عن تلك التي يختزنها مؤيّدوه.

ليس خافياً انّ صفير كان صاحب خيارات سياسية جذرية، وضعته في مواجهة فريق من ال​لبنان​يين يتمسّك بخيارات مضادة، خصوصاً على مستوى النظرة الى ​سلاح المقاومة​ والعلاقة مع ​سوريا​.

إلّا أنّ هذا التباعد بين صفير وبعض القوى الداخلية على الساحتين المسيحية والاسلامية لم يقطع خيوط الحوار بين الجانبين، ولو بَدت وتيرته متقطعة، بل بقيت أبواب ​بكركي​ مفتوحة أمام أصحاب «الرأي الآخر» الذين كانوا يحرصون على استمرار التواصل معها، لشرح حقيقة مواقفهم بعيداً من محاولات التشويه والتأويل من جهة، ولئلّا يكون البطريرك تحت تأثير أدبيات أو مصالح طرف واحد من جهة أخرى.

إستطاع صفير، الى حد كبير، أن يجمع الصلابة والمرونة في وعاء شخصية واحدة، ولعلّ تجربة رئيس تيار «المردة» الوزير السابق ​سليمان فرنجية​ تختصر كثيراً من الدلالات على هذا الصعيد. كان الخلاف السياسي عميقاً بين صفير وفرنجية، إلّا انهما استطاعا تنظيمه والتعايش معه، وصولاً الى فصل الجانب الشخصي عن الجانب العام.

التصلّب في مواقف صفير واقتناعاته، لم يمنعه من الانفتاح على الحوار مع فرنجية. صحيح أنّ الجسور تصدّعت أو انقطعت في أوقات معينة، الّا انّ فترات القطيعة كانت قصيرة عموماً، ليعود التواصل مجدداً على قاعدة احترام كل منهما لخصوصية الآخر. وعلى رغم من «عناد» البطريرك في المسائل الجوهرية، إلّا انّ فرنجية كان ينجح احياناً في إقناعه بتدوير بعض الزوايا الحادة، ليكتشف لاحقاً انّ هناك في محيط صفير مَن دخل على الخط للتشويش.

كثيراً ما تناقش الرجلان حول الوجود السوري في لبنان وانعكاساته على الحضور المسيحي. لم يُخف صفير معارضته الحادّة للدور السوري ومفاعيله على التوازنات الداخلية، بينما كان فرنجية يؤكد له انّ الخطر على المسيحيين ليس مُتأتياً من دمشق «التي تريد أفضل العلاقات معهم ويهمّها تعزيز حضورهم، لا العكس».

هذا التعارض في مقاربة سياسات دمشق ونيّاتها، لم يؤثر على احترام صفير لزعامة فرنجية وتعاطيه الواقعي مع ما كان يمثّله الرجل من مرجعية مسيحية في السلطة، إبّان وجود العماد ​ميشال عون​ في المنفى ورئيس «القوات» ​سمير جعجع​ في السجن. وسجّل البطريرك لرئيس «المردة» في تلك الحقبة انه أسدى كثيراً من الخدمات للمسيحيين، إنطلاقاً من كونه صاحب نفوذ وازن في الدولة حينها.

واللافت انّ الخلافات الواسعة حول ملفات عدة، لم تمنع حصول تقاطعات سياسية في بعض المحطات كما جرى بالنسبة الى ​قانون الانتخاب​ عندما كان فرنجية وزيراً للداخلية.

آنذاك، نجح فرنجية في تأمين تغطية من «حزب الله» والرئيس السوري ​بشار الأسد​ ل​قانون الستين​ (القضاء) الذي كان مطلب بكركي الاساسي، ثم زار صفير لاحقاً وأبلغ اليه انّ هذا القانون الذي هو طموح المسيحيين بات يحظى بتأييده وبدعم حلفائه. لكنّ المفارقة انّ بعض أصدقاء صفير هم الذين خذلوه لاحقاً ودفعوا في اتجاه إقرار صيغة انتخابية أخرى.

لم يكن صفير يتأخّر في تحديد موعد لفرنجية كلما طلبه، كذلك كان يحرص على استقباله بحفاوة، في إشارة الى انه يميّز التباين السياسي عن الودّ الشخصي. وحين زاره في ​الديمان​ مرة على رأس وفد كبير من «المردة»، خاطَبه صفير بالقول: «هذا الشبل (فرنجية) من ذاك الأسد».

وفرنجية بدوره كان يرد على التحية بمثلها أو أحسن، كما حصل عندما اقترح على صفير أن يخصّص له جلسة تصوير فوتوغوافي، وهو المعروف عنه بأنه يجيد التصوير الذي يُعتبر من هواياته المفضّلة.

وافق البطريرك على عرض فرنجية الذي أمضى خلال أحد الايام ساعات طويلة في الديمان وهو يلتقط صوراً لصفير، في داخل المقر البطريركي ​الصيفي​ ومحيطه، علماً انّ كثيراً من صوره المتداولة تحمل بصمات فرنجية.