رحل مُثلَّث الرَّحمات، غِبْطة البَطْريرك مار نصر بطرس الله صفير، تاركًا تاريخًا جمعَه، في مكتبته الخاصّة بالقرب من منزله الأَبويِّ، وهي مَنْهل قِيَمٍ وثقافةٍ إِنْسانيَّةٍ تُوحِّد وتَجْمع فيَطيب التَّعايُش!...

وإذا ركَّزَت الكلمات إِبَّان الرَّحيل الكبير، على المَواقف السِّياسيَّة والثَّوابت الوطنيَّة لدى البَطْريرك صفَير... فذلك لا يُقلِّل من أَهميَّة الإِضاءة على الجَوانب الثَّقافيَّة والقِيَم الإِنْسانيّة الَّتي كرَّس البطريرك صفير عُمْره لَها...

فغالبًا ما تَراه مُمْسكًا بكتابٍ يَقْرؤه، أَو صَحيفةٍ يَطَّلع على الأَخْبار فيها والتَّحْليلات... وهذه من المَزايا المَطْلوبة بقوَّةٍ في القائد الرُّوحيِّ كما وفي مَفْهوم القِيادة بالمُطْلق...

وفي هذا الإطار يقول ويليامنيكلسون: "نَقْرأ لنَعْرف أَنَّنا لَسْنا وَحْدنا"، ما يخلع بالتَّالي على المُطالعة العَباءة الإِنْسانيَّة.

وبغياب البَطْريرك صفير، شعورٌ عارمٌ بفِقْدان كبيرٍ من الوطن، ما يوجِب التَّفكُّر في ما للكَنيسة المارونيَّة وما عليها؟.

تلك الكَنيسة الَّتي لَطالما كانَت تَجْمع الوطن على اخْتِلاف أَطْيافه ومَشاربه... تَسْتذكر اليَوْم الزِّيارة الأُوْلى الَّتي قام بها البَطْريرك صفير إِلى ​فرنسا​ بعد انْتِخابه، مُتأَخِّرًا نيِّفًا وثلاثة أَشهر عن المَوْعد المُحدَّد للزِّيارة، بسبب الأَوْضاع الأَمْنيَّة في ​لبنان​ أَواخر 1986. وقتها التَقى الرَّئيس الفَرنسيّ آنذاك فرنسوا ميتران، ورئيس وزرائه ​جاك شيراك​، ووزير الخارجيَّة جان برنانر ريمون. وقال البَطْريرك بعد لِقائه الأخير: "أَنا لا أَطْلب شيئًا لطائِفتي لا أَطْلبه لجميع اللُّبْنانيِّين. أَطْلب أَنْ تُساعدوا في تَحْرير الإِرادة الوَطنيَّة، ليتمكَّن اللُّبنانيُّون من اللِّقاء، والقيام بالإِصْلاحات الدُّسْتوريَّة اللازِمة".

غياب الرُّؤْية؟

إِذا كانت الرُّؤْية آنذاك، وفي أحْلَك الظُّروف الأَمْنيَّة والسِّياسيَّة، واضحةً ومُحدَّدةً، فإِنَّ رؤيتها اليوم على مساحة الوطن ضَبابيَّةٌ. حتَّى وَلَو كانَ رأس السُّلْطة السِّياسيَّة يمْتلك رؤيةً واضحةً، فدونَها عقباتٌ وحَرْتقاتٌ تَبْدأ بالكَهْرباء ولا تَنْتهي بالفَساد...

فحتَّى الحَراك المدنيّ الشَّعْبيّ عندنا راهنًا، والَّذي كان من المُفْترض أَنْ يُشكِّل نَوْعًا من الاعْتِراض على الفَساد القائِم في لبنان، وأَنْ يَكون أَمينًا في تَعْبيره عن وَجَع المُواطنين ومَطالِبهم، نَراهُ يَفْتقر إِلى الأَهْداف القابِلة للتَّحْقيق...

وتراهم "يُكْبرون الحَجر" فيسقط من دون أَنْ يُصيب الهَدف... ويُنادون بـ"إِسْقاط النِّظام القائِم"، وكأَنَّه سَيَسْقط غدًا. حتَّى الحَراك عندنا يَفْتقر إِلى "الرُّؤْية السِّياسيَّة" الَّتي مِن المُفْتَرَض أَنْ تُحدِّد مَضْمون التَّحرُّك، افْتِقارَه أَيْضًا إِلى "الحامِلة الاجْتماعيَّة المُنَظَّمة"، وخلافًا لما نادى به البَطْريرك صفير لـ"كلِّ اللُّبْنانيّين"، إِذا بالحراك راهنًا يَنْغَمس في التَّمَذْهُب حتَّى الأُذُنَيْن!...

وما حذَّر مِنْه البَطْريرك صفَيْر أَيْضًا، خِلال زيارته الأَوْلى للولايات المُتَّحدة، وأَمام الرَّئيس رونالد ريغن، من خِشْيته من "أَنْ يُهاجِر النَّاس... وأَنْ تَتصاعد المَوْجة الأُصوليَّة في العالَم كلِّهِ"... انقلبَ واقِعًا مريرًا!.

وفيما لم يُكْبَح جماحُ ​الهجرة​ بعد، سُجِّلت للجَيْش اللُّبْنانيّ بُطولاتٌ في اسْتِئْصال الأَوْرام التَّكْفيريَّة، وتطهير الأَرْض من رَجَس الإرهاب!. غير أَنَّ الأَخْطاء السِّياسيَّة في عدم وجود الرُّؤية، كلَّفت الوَطن فاتورة اسْتِشْهاديّة باهِظة الثَّمَن...

وينبغي أَنْ تَنْطلق تلك الرُّؤية الإِنْقاذيَّة المُفْتَقدة من القَناعة بأَنَّ "أَزْمة لُبْنان غير عاديَّة"، وبالتَّالي–وبحسب ما قال البَطْريرك صفير يومًا: "يَجِب أَنْ تُعالَج بطرقٍ غير عاديَّةٍ". ولا بُدَّ للخلاص من أَنْ يَكون على يد "رجال دَوْلةٍ من طِرازٍ أَوَّلٍ، أَبْطالٍ قوميِّين يتسامَون فوق الطُّموحات الشَّخْصيَّة، ويتحلَّوْن بذهنيَّةِ النُّسَّاك والقِدِّيسين"...

واليوم، ونحن نَتحضَّر لوَداعك أَيُّها الكبير، نُردِّد ما استشهدت بِه أَنْتَ، في وداعِك قداسة ​البابا​ يوحنَّا بولس الثَّاني في قدَّاسٍ لراحة نَفْسه في "بازيليك سيِّدَة لُبْنان"، منذ أَرْبعة عشر عامًا، حين هَتَفْت نقلاً عن إِنْجيل لوقا(24:29): "إِبْق مَعنا يا أَللَّه".