قد تكون سابقة في الديمقراطيّة اللبنانية أن تبقى عضوية أحد النواب "عالقة" في البرلمان، بعد مرور أكثر من عام على الانتخابات النيابيّة التي جرت في أيار 2018، كما هو حال عضو كتلة "المستقبل" النائب ​ديما جمالي​، التي يبدو أنّها ستبقى نائباً "مع وقف التنفيذ" لأشهر إضافيّة.

لا أحد يحسد جمالي على موقفها ربّما، هي التي اعتقدت أنّ نجاحها في الانتخابات الفرعيّة الأخيرة بفارقٍ شاسعٍ عن أقرب منافسيها، على رغم كلّ التحفّظات على حجم المشاركة فيها، سيمنحها "حبل النجاة" أو "الحصانة" المطلوبة لمواجهة أيّ تفكيرٍ بالطعن بنيابتها، بخلاف ما حصل في انتخابات 2018 حين كان الفارق ضئيلاً جداً.

في كلّ الأحوال، قُدّم الطعن بجمالي أمام ​المجلس الدستوري​، الذي لا يزال خلافها الشخصيّ معه ساري المفعول، وبات عليها انتظار حكم الأخير، الذي إمّا يثبّت نيابتها، أو يلغيها، أو يُخضِعها مجدّداً للامتحان الشعبي، فهل يمكن القول إنّ نيابتها باتت مهدَّدة بصورةٍ جدية؟!.

"خطايا" جمالي

على الرغم من كلّ الملاحظات على الانتخابات الفرعية الأخيرة في طرابلس، التي شكّلت برأي كثيرين "فضيحة" في تاريخ الانتخابات اللبنانية، العاديّة والفرعيّة على حدّ سواء، من حيث نسبة الاقتراع الهزيلة والتي لم تصل إلى عتبة 13 في المئة، فإنّ نتيجتها لم تكن مفاجئة لأحد، خصوصاً أنّ الفارق بين جمالي وأقرب منافسيها، المرشح ​يحيى مولود​، كان شاسعاً، وهو ما كانت تشير إليه كل التوقعات والتقديرات السابقة للانتخابات.

إلا أنّ هذه النتيجة، وبمُعزَلٍ عمّا إذا كانت "مستحقّة" أم لا، لم تحمِ جمالي من ارتكاب المزيد من "الخطايا" التي جعلتها تهدّد نيابتها بنفسها، هي التي أطلّت في مقابلة تلفزيونية بعيد الانتخابات مباشرةً، معتمدةً خطاباً اعتبره البعض "خطاب الانتصار"، اعترفت فيه بالفم الملآن بتقديم الأموال للناخبين، على الرغم من أنّ "​تيار المستقبل​" كان قد اتخذ قراراً بعدم دفع المال، إلا أنّ نسبة الاقتراع المخيّبة للآمال فرضت عليه خطاً آخر، وفق ما أوحت جمالي. ولعلّ "الفاقع" في كلام جمالي يومها، كان في اعتبارها الأمر "بديهياً وطبيعياً"، خصوصاً بعدما "اختلطت" بالناس، ولمست المعاناة والفقر والحاجات، ما دفعها إلى المجاهرة بأنّها لم تستطع إزاء ذلك عدم دفع الأموال، شعوراً منها مع مواطنيها وأهلها.

ومن هذه "الخطيئة" بالتحديد، والتي تتفوّق من دون شكّ على كلّ ما عداها، ينطلق الطعن الذي قدّمه المرشح الخاسر مولود بحق جمالي، مضيفاً إليها سلسلة من "الخطايا" الأخرى، وصل عددها إلى 11، وإن كانت أصبحت أمراً معهوداً في الانتخابات بحكم الأمر الواقع، على غرار تدخل السلطة التنفيذية المباشر في حملتها الانتخابية، وقيام الموظفين العامين بالترويج لها، واستخدام المرافق العامة والدوائر الحكومية والمؤسسات العامة لإجراء المهرجانات واللقاءات والدعاية الانتخابية. ولا شكّ أنّ مولود كان يشير بالدرجة الأولى إلى تدخّل رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ في الحملة الانتخابية لجمالي، هو الذي انتقل إلى طرابلس عبر طوافة عسكرية، في زيارةٍ لم يكن عنوانها سوى دعم مرشحته في الاستحقاق الفرعيّ، علماً أنّ الطعن يشير بشكلٍ واضحٍ أيضاً إلى "استخدام المشاريع الإنمائية الحكومية الممولة من المال العام وتقديمات مؤتمر "سيدر" كجزء أساسي من الحملة الانتخابية".

السيناريوهات المحتملة

لم يتأخّر المجلس الدستوري في التعامل مع الطعن الذي قدّمه مولود بحق جمالي، وفقاً للأصول التي يعتمدها دائماً، إذ تمّ تعيين مقرّريْن من أعضاء المجلس لإجراء التحقيق اللازم في حيثيات الطعن، على أن يقدّما تقريراً حول نتائجه وتفاصيله إلى المجلس، الذي يتّخذ في ضوء ذلك القرار المناسب في شأن إبطال نيابة جمالي أو عدمه.

ومع أنّ الخلاف بين المجلس وجمالي، التي يُضاف إلى سلسلة "خطاياها" تصريحها السابق للانتخابات الفرعية حول تلقي المجلس للأموال لإبطال نيابتها، لا يزال مستمراً، فإنّ الأكيد أنّ المجلس الدستوري يفصل في المسار الذي يتّبعه بين هذه القضية التي تسلك مسارها القانونيّ الطبيعيّ، وبين الطعن الذي يصرّ على درسه بتجرّد عن كلّ ما سبق.

وعلى جري العادة مع كلّ الطعون، فإنّ أمام المجلس الدستوري ثلاثة خيارات، فإما يرفض الطعن ويثبّت نيابة جمالي في نهاية المطاف، وإما يبطل نيابتها ويعلن فوز أحد المرشحين الخاسرين، سواء كان الطاعن نفسه أو سواه، وإما يعلن مقعد المرشحة المطعون بنيابتها شاغراً، ويترك للسلطة التنفيذية في هذه الحال أمر الدعوة إلى انتخابات فرعية جديدة لملئه خلال مهلة يحدّدها في قراره النهائيّ، تماماً كما حصل في الطعن السابق الذي قدّمه مرشح "​جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية​" ​طه ناجي​.

ومع أنّ الوقت لا يزال مبكراً لتقييم أيّ السيناريوهات هو المرجّح، فإنّ ثمّة من يجزم من الآن بأنّ المجلس الدستوري لن يتردّد في تثبيت نيابة جمالي، انطلاقاً من اجتهاداتٍ تاريخيّة سابقةٍ له، تقوم على أنّ "الرشوة"، سواء تمّ إثباتها بالدليل القاطع أم لا، لم تؤثر على النتيجة النهائية، نظراً للفارق الشاسع في الأصوات، علماً أنّ ثمّة من يلفت إلى أنّ "اجتهادات" المجلس هذه دفعته إلى عدم إعلان فوز المرشح الخاسر في الانتخابات السابقة، على رغم إقراره بصحّة الطعن المقدَّم يومها.

لكنّ هذا "الاجتهاد" يبدو مرفوضاً من العديد من الخبراء الانتخابيين، الذين ينطلقون من أنّ "الاعتراف هو سيّد الأدلة"، ويصرّون على أنّ الحذر في التعامل معه غير مبرَّر، خصوصاً أنّه يشرّع ثقافة المال الانتخابيّ بصورةٍ أو بأخرى، وصولاً إلى تعميمها، وهو ما يتنافى مع مبادئ الديمقراطية،علماً أنّ محاولات التبرير التي لجأ إليها بعض القياديّين في "تيار المستقبل" لجهة الحديث عن "مساعدات" لا "رشوة" لا يقلّ ضرراً عن "خطيئة" جمالي نفسها، باعتبار أنّ قانون الانتخاب أكثر من واضح في تحديد طبيعة "المساعدات"، ومتى يتمّ التمييز بينها وبين الرشوة.

على كفّ عفريت؟!

برأي كثيرين، كان يمكن لجمالي أن تخرج من الاستحقاق الفرعيّ الأخير الذي جرى في عاصمة الشمال "منتصرة" بكلّ ما للكلمة من معنى، مستفيدةً من التحالف السياسي الذي جمع معظم "زعماء" طرابلس حولها، ومن النتيجة التي حقّقتها، والتي جعلتها "تحلّق" بعيداً عن أقرب منافسيها.

كان يمكن لجمالي أن تخرج "منتصرة"، على رغم كلّ التحفّظات على العملية الانتخابية التي حصلت، سواء لجهة نسبة الاقتراع الهزيلة، أو لجهة المخالفات التي تمّ توثيقها، والتي بقيت في الإطار العاديّ، سواء على مستوى استخدام المرافق العامة للترويج لها، أو لجهة خرق الصمت الانتخابي، وكلّها تُسجَّل في معظم الانتخابات.

إلا أنّ جمالي، بإطلالتها التلفزيونية اللاحقة للانتخابات وتصريحاتها المثيرة للجدل، فضلاً عن افتعالها خلافات لا طائل منها مع المجلس الدستوري وغيره، أحرجت نفسها والفريق السياسي الذي تنتمي إليه، واضعة مقعدها على كفّ عفريت، وإن كانت التقديرات تشير إلى أنّه سيعود إليها في النهاية، ولو بقطع الأنفاس...