لا يوجد أدنى شك في أنّ إيران هي التي تقف وراء التفجيرات التي طاولت أربعَ سفن في المياه الإقليمية الإماراتية مقابل ميناء الفجيرة، وبطبيعة الحال فإنّ الهجوم الذي نفّذه الحوثيون بطائراتٍ مسيّرة على محطتين لضخّ النفط في السعودية يدخل في الرصيد الصافي لإيران من ضمن برنامج التعاون بينها وبينهم.

صحيح أنّ إيران نفت ايّ علاقة لها، وهذا طبيعي ومفهوم في إطار الحرب المفتوحة بينها وبين الادارة الاميركية، الّا أنّ دويَّ الرسائل كان قوياً وواضحاً وهو وصَلَ الى حيث يجب ولو من دون توقيع واضح. والرسالة تقول: «النفط مقابل النفط». والأهم أنّ الرد الإيراني لن يقتصر على هاتين الرسالتين فقط، بل لا بد من توقع رسائل أخرى وفي أماكن أخرى، وواشنطن تدرك ذلك وهو ما دفعها الى التحذير من التعرض للقوات الاميركية فقط، بما يشبه رسم خط أحمر حول هذه الأهداف من دون سواها.

الرد الإيراني على واشنطن كان ذكياً ومدروساً بعناية. فالتفجيرات التي طاولت السفن الأربع تمّ اختيار هوياتها بعناية، وكذلك كمية المتفجرات والتي تحدث أضراراً ولكن بالحدود الدنيا، والاهم أنها حصلت في المياه الإقليمية للإمارات وليس في المياه الدولية حيث يصبح للمسألة اتّجاه آخر. ومعه تستطيع إيران التنصل ونفض يديها ومحو بصماتها.

وأما الهجوم على محطتي ضخ النفط فلا ضير أن يحمل توقيع الحوثيين، حيث إنّ صفحات الحرب مفتوحة في اليمن وهو ليس الاستهداف الاول للحوثيين في قلب السعودية.

وقد تفاجئ طهران واشنطن في رسالتها الثالثة قريباً. لكنّ أهمية ما حصل أنه على رغم من ارتفاع مستوى التوتير إلّا أنه كشف للجميع رفض جميع الأطراف الذهاب الى الحرب. وكذلك أفقد الرئيس الاميركي دونالد ترامب سلاح الضغط والتهويل والذي دأب على استخدامه طوال الأشهر الماضية.

وكان واضحاً أنّ الإدارة الأميركية سرّبت الى الإعلام الأميركي خبر عزمها على إرسال 120 ألف جندي أميركي الى المنطقة قبل أن يعود ترامب وينفيه. إنها لعبة التهويل مجدداً، لكنها فقدت صدقيتها هذه المرة.

مع بداية الشهر الجاري، كانت الضغوط الأميركية قد بلغت ذروتها وهي ما دفعت ترامب الى القول إنه أعطى رقم هاتفه للوسيط السويسري لكي يتصل الإيرانيون به. غالب الظن أنّ أحداً في إيران لم يطلب معرفة رقم ترامب. لا بل إنّ الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني تحدث عن مهلة الستين يوماً قبل الخروج من الاتفاق النووي، وهي باشرت من بعدها توجيه رسائلها التي تقول: «نفط إيراني أقل سيعني نفطاً خليجيّاً أقل». هذا مع العلم أنّ تصدير النفط الإيراني انخفض الى نحو 700 ألف برميل في اليوم وهو ما يشكل الخط الأحمر للاقتصاد الإيراني.

والواضح أنّ فترة الستين يوماً هي فترة ضيقة جداً أمام ترامب. وصحيح أنّ مرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي قال إنّ بلاده لن تتفاوض مع واشنطن وهو ما سيلتزم به، إلّا أنّ لهذه المعضلة حلولاً لا بدّ من ابتكارها خلال مهلة الستين يوماً:

ـ أولاً، أنّ المسؤولين الإيرانيين كانوا ألمحوا مرات عدة أنّ بلادهم لن تفاوض وهي في وضع ضعيف ومن دون أوراق قوة. وقد تشكل الرسالتان الأمنيتان وما سيليهما أوراق قوة تسمح لطهران بفتح أبواب التفاوض.

ـ ثانياً، ليس بالضرورة أن تحصل مفاوضات مباشرة، وهو ما التزم به السيد خامنئي، ذلك أنه يمكن أن تحصل المفاوضات بطريقة غير مباشرة وعبر طرف ثالث.

في المعلومات أنّ سلطنة عُمان باشرت وساطة بين واشنطن وطهران ونقلت رسائل بين الطرفين. كذلك تردّد أنّ مسؤولاً بريطانياً رفيعاً زار طهران سرّاّ منذ أيام عبر البوابة القطرية، ولو أنّ أحداً لم يؤكد هذا الخبر، كذلك دخلت بغداد على الخط بين واشنطن وطهران.

ولكنّ العبرة تبقى في الوساطة العُمانية والتي تتركز على مهمتين:

ـ الاولى: السعي لتخفيف التوتر وإبعاد الخطر الموجود. فصحيح أنّ أيّاً من واشنطن وطهران لا تريد الحرب، وأنّ المناورات والضغوط والرسائل تتجنّب اجتياز خط الخطر، لكن قد يكون هنالك مصطادون في الماء العكر يريدون المواجهة ويسعون اليها مثل إسرائيل.

ـ الثانية، وهي التي تلي تتعلق بفتح ملفات المفاوضات الجدّية بين البلدين بعد أن تكون طهران قد نجحت في فرض نفسها وامتلاك أوراق قوة تعوّضها امتلاك واشنطن ورقة العقوبات التي تكاد تخنق الاقتصاد الإيراني.

وتبدو إيران واثقة من انها تلعب أوراقها في الوقت الملائم. فعلى الخريطة العالمية هنالك تحدٍّ بين آخرين في وجه ترامب: كوريا الشمالية وفنزويلا. اضف الى ذلك أنّ القوى الدولية تريد توجيه صفعة للسياسة العنيفة والفوقية التي يتبعها ترامب.

وعدا عن الصين وروسيا، فإنّ أوروبا التي أهانها ترامب مرات عدة، ليست مستعدة لمجاراته، وهو ما تجلّى في فشل مهمة وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو خلال زيارته لأوروبا طالباً منها الوقوف الى جانب واشنطن ضد طهران.

وفي الداخل الاميركي بداية حملة ضد سياسة ترامب الخارجية والتي تكاد تُفقدها دورها العالمي.

وكتبت سوزان رايس مستشارة الامن القومي الأميركي خلال ولاية باراك أوباما في صحيفة «النيويورك تايمز» مقالاً انتقدت فيه بعنف قرار ترامب بالخروج من الاتفاق النووي واصفة إياه بالخطوة المتهوّرة لأنه سيترك المشروع النووي بلا رقابة، وسيؤدي الى عزل التيار الإيراني الإصلاحي بقيادة روحاني.

وبعدما اعتبرت رايس أنّ ترامب دمّر الاتفاق كرهاً بسلفه باراك أوباما لا بسبب وجود بديل افضل، قالت إنّ ترامب ضرب صدقيّة واشنطن، وإنه لو ظنّ أنه يوجه رسالة تحذير الى كوريا الشمالية فهو مخطئ.

وأخبار ترامب السيئة لا تقف هنا، بل بدأت تهدد «صفقة القرن» التي يعوّل عليها كثيراً، خصوصاً في حملته الانتخابية.

ففي لقاء جمع مستشار ترامب صهره جاريد كوشنر مع مسؤولي «معهد واشنطن» الكبار، نال واضع خطة «صفقة القرن» هجوماً عنيفاً ولاذعاً.

أهمية المسألة أنّ «معهد واشنطن» يُعتَبَر موقعَ نفوذ يهودي وإسرائيلي كبير. ففي صفوفه ضباط سابقون كبار في الجيش الإسرائيلي ورؤساء اركان ومسؤولون سابقون. ما يعني أنّ «نبض» المعهد يطاول مناخ الدولة الاسرائيلية العميقة.

فلقد نعَتَ المحاورون كوشنر بأنه عديم الخبرة وذلك في معرض انتقادهم «صفقة القرن». وعبّر المدير التنفيذي لـ»معهد واشنطن» روبرت ساتلوف بالقول «إنّ الطريقة الوحيدة لحماية الاستمرارية الطويلة الأجل لأفضل جوانب خطة كوشنر هي في إحباط الخطة».

ووضع ساتلوف عنواناً لدراسته يقول: «خطة جاريد كوشنر للسلام قد تكون كارثية».

وهو ما يعني أنّ إسرائيل ستعمل على إحباط الخطة، ما سيضاعف مصائب ترامب الانتخابية.