اليوم يودِّع ​لبنان​ من اصطُلِح على تسميته "بطريرك الاستقلال الثاني"، البطريرك الماروني الكاردينال ​مار نصرالله بطرس صفير​...

اليوم يستكمل اللبنانيون إلقاء نظرة الوداع الاخيرة على سنديانة من سنديانات لبنان العتيقة وعلى صخرة من صخور لبنان لم يفتتها الزمان ولا الأعاصير...

اليوم يدخل البطريرك صفير التاريخ إلى جانب مَن سبقوه من عظماء الطائفة المارونية، البطاركة الخمسة والسبعين.

اليوم سيعرف اللبنانيون المعنى الحقيقي لِما هو مكتوب على باب الصرح البطريركي في ​بكركي​:

"مجد لبنان أُعطي له".

***

اليوم يبدأ البطريرك صفير عامه المئة، أمس، وعلى الطريق الممتدة من مستشفى

"​أوتيل ديو​" إلى بكركي، "إحتفل" معه اللبنانيون بـ "عيده" الـ 99 عامًا، وكان يحز في نفوسهم ألا يحتفل معهم السنة المقبلة بالذكرى المئوية الأولى لولادة دولة لبنان الكبير في أيلول من العام 1920.

لكنه أغمض عينيه بعدما اطمأنَّ إلى ان "لبنان الكبير" لم يعد وجهة نظر ولا هو

"حصة في درس التاريخ" بل هو وطن ودولة تجاوزت قطوعات سنوات الحرب، ولا بد من التذكير، لمَن نسوا أو تناسوا أن سني الحرب التي مرَّت على لبنان هي بعدد سنوات الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومع ذلك استطاع ان يبقى صامدًا، ليس لأن حكامه يريدون ذلك، بل لأن شعبه هو الجبار وهو الذي صمد.

ولهذا فإن البطريرك صفير "ينام قرير العين" لأنه مطمئنٌ إلى شعبه ويعرف شعبه الذي لا يخذله.

***

يودِّع اللبنانيون اليوم "بطريرك التواضع" الذي لم يكن هناك شيء يغرّه في هذه الدنيا: لا المواكب ولا ترف العيش ولا البذخ.... عاشت عائلته المؤلفة من خمس شقيقات بتواضع ما بعده تواضع وكأن شقيقهم الأوحد، البطريرك صفير، لم يمكث في بكركي على مدى أكثر من نصف قرن، كأمين سر للبطريركية المارونية ثم مطرانًا ثم بطريركًا وكاردينالًا.

امتد تواضعه من بكركي الى ريفون، مسقط رأسه، إلى ​الديمان​ إلى وادي القديسين في قنوبين:

حوَّل منزله في مسقط رأسه في ريفون إلى مكتبة عامة، وأوصى بكل ما يملك من مقتنيات وما قٌدِّم إليه من هدايا، إلى "​كاريتاس​".

وفي الديمان حيث المقر ​الصيفي​ للبطريركية المارونية، كان البطريرك صفير يرتاد ​وادي قنوبين​ مشيًا على القدمين، وكان يشعر بالهناء والراحة بقرب البطاركة الذين سبقوه والذين دفنوا في قنوبين.

***

لكل هذه الأسباب مجتمعةً، زحف لبنان لوداع البطريرك صفير:

من الجبل حيث كان للبطريرك صفير مع النائب ​وليد جنبلاط​ فضل المصالحة التاريخية في ​المختارة​.

من بيروت حيث كان للبطريرك صفير مع الرئيس الشهيد ​رفيق الحريري​ الفضل في التوصل الى ​اتفاق الطائف​ الذي انهى الحرب.

من الشمال والبقاع والجنوب حيث كل المناطق سواسية بالنسبة إلى هذه السنديانة التي لم تطوِّعها الظروف.

***

كم تمنّى اللبنانيون لو ان جثمان البطريرك صفير سُجي من اليوم الأول للوفاة في كنيسة الصرح، لكانوا تمكنوا، أكثر فأكثر، من الوصول الى بكركي لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة. اما حصر القاء النظرة الاخيرة بيوم واحد، فلم يقع برداً وسلامًا

وارتياحًا على قلوب محبيه والمؤمنين. اللبنانيون يحبون البطريرك صفير، وهو كان يعرف انهم يحبونه، لذا فإن مَن لم يستطع القاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، كان يصلي له في قلبه.

رحل "بطريرك التواضع" لكنه ترك نهجًا عسى الجميع يسيرون وفق هديه.