بات معلوماً ان سفناً في ​الخليج​ (وعددها اربع) تعرضت لعمليات "تخريب"، وان المسألة اثارت اهتماماً عالمياً ادى بالبعض الى الاعلان عن القلق من ان تشكل هذه الحادثة سبباً مباشراً لاشعال فتيل الحرب بين ​الولايات المتحدة​ الاميركية وحفائها من جهة و​ايران​ ومن يقف معها من جهة ثانية. ومن المعلوم ايضاً ان الاميركيين وجهوا اصابع الاتهام الى ايران دون ان يحسموا قرارهم في تحويل الاتهام الى واقع، فيما القى الايرانيون اللوم على طرف خارجي يسعى الى توتير الامور في الخليج.

هذه المراجعة السريعة تعطي فكرة واضحة عما يدور حوله الموضوع، وباختصار شديد يمكن القول ان حالة من الضياع تسود هذا الملف، دون ان يُعرف الخيط الابيض من الاسود فيه، ولعله من المطلوب ابقاء الغموض وعدم حسم الموضوع بشكل سريع. وبعد الانطلاق من الامور المعلومة، يمكن القاء نظرة على ملاحظات قد لا يعرفها الجميع رغم انها واضحة للعيان ويمكن متابعتها بتحليل بسيط. في المرحلة الاولى، لم يُعرف بشكل حاسم ما اذا كانت السفن قد تعرضت لتفجير من خلال صواريخ او عبوات ناسفة، وتم الاكتفاء بالقول ان العمل تخريبي وادى الى الحاق اذى بهياكل السفن دون وقوع اصابات في الارواح. هذا الامر بحد ذاته يدفع الى التفكير بوجود "قطبة مخفية"، فالحوادث السابقة التي استهدفت سفناً كانت تتم عبر صواريخ او متفجّرات وكانت تؤدي الى اصابات لاشخاص تواجدوا على متنها، بين قتيل وجريح. اما هذه الحادثة فالتخريب بقي "محصوراً"، وهذا يمكن اعتباره بمثابة دليل على ان الفاعل، اياً كانت هويته، لا يرغب في تأزيم الامور وتصعيدها بشكل دراماتيكي، بل ان يبقيها تحت السيطرة وان يبقي القلق والخوف في الخليج، مع كل ما يترتب على ذلك من تحرّكات ومواقف في المستقبل تحت ستار "ضمان امن السفن".

اضافة الى ذلك، قيل ان سفينتين من السفن الاربع التي تعرضت للتخريب، كانتا تقلاّن نفطاً الى الولايات المتحدة، وهذا امر لا يمكن ان يمرّ مرور الكرام. ففي عهد الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​، ان امراً كهذا يمكن اعتباره بمثابة اعلان حرب، وستأخذه الادارة الاميركية بجدّية مطلقة، وتتّخذ تدابير اقل ما يقال فيها انها على قدر كبير من الحساسيّة والفاعليّة لمنع تكرار حصول مثل هذه الحادثة التي تستهدف المصالح الاميركية، ناهيك عن الفرصة الكبيرة التي يمكن لترامب ان يستغلّها عبر اتّهام ايران بشكل مباشر وصريح بالوقوف خلف هذه العمليّة واستغلال الوضع لممارسة ضغوط اكبر وضمان الحصول على تأييد اوسع للعقوبات التي يفرضها، وربما الحديث عن عمل عسكري دولي محدود ضدّ المصالح الايرانيّة. ولكن ما حصل كان مفاجئاً، لانّ ردّة الفعل كانت باردة جداً ولم ترتق الى مستوى الحدث والحادث، وبعد ايّام على وقوعه، لم يتمّ اتّخاذ ايّ تدبير عسكري اميركي سوى تحريك بعض السفن والقطع البحريّة الى الخليج، وهو امر على اهميّته، لا يمكن ان يرتقي الى الرد المتوقّع من واشنطن فيما لو كان النفط بالفعل متوجهاً الى الولايات المتحدة.

يستعدّ الجميع لتذوق "طبخة" ما يتمّ تحضيرها، ولكن الطبّاخ ماهر جداً الى حدّ انه يعمل بوتيرة هادئة ولا يكشف عن مكونات ما يعدّه، ولكنه بالتأكيد لن يكون على مستوى الحرب الواسعة النطاق، وهي سياسة اثبت ترامب في اكثر من مناسبة انه بعيد عنها، بدليل كلامه الاخير عن ثقته بأنّ ايران سترغب في اجراء محادثات مع الاميركيين في وقت قريب، فيما لاقاه المرشد الاعلى لايران ​علي خامنئي​ في منتصف الطريق حين استبعد امكانية نشوب حرب بين ايران واميركا.

انها سياسة الترقّب والانتظار، سياسة المعلوم والمجهول التي قد تأخذ وقتاً لتوضيح الصورة التي ستعتمدها.