قبل ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، كثر الحديث حول نيّة رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ الدعوة إلى استئناف الحوار حول الاستراتيجيّة الدفاعيّة، الذي كان شهد جولاتٍ متعدّدة في قصر بعبدا في العهود السابقة، من دون أن يفضي إلى النتيجة المرجوّة.

مرّ عام على الانتخابات من دون أن تلتئم ​طاولة الحوار​ هذه، لاعتباراتٍ متعدّدة، مرتبطة على الأرجح بترتيب الأولويات، باعتبار أنّ عون يركّز اهتمامه في الوقت الحاضر على ملفاتٍ شديدة الحساسيّة، على غرار الملفّيْن الاقتصادي والاجتماعي، واللذين تمرّ من خلالهما قضية النزوح التي يصرّ على وجوب إنهائها سريعاً.

اليوم، وعلى وقع قرع طبول الحرب في المنطقة، في ضوء الصراع الأميركي-ال​إيران​ي المتصاعد، والمخاوف من انزلاقه إلى مواجهة إقليمية قد لا تكون محمودة النتائج، ثمّة من يسأل عمّا إذا كانت الأولويات ستعيد ترتيب نفسها، ليصبح الحوار حول الاستراتيجية الدفاعيّة ضرورةً وواجباً، واليوم قبل الغد...

لا خطر على ​لبنان​؟!

لبنان ليس جزيرة منعزلة عن محيطه. هي العبارة التي يردّدها اللبنانيون عند كلّ استحقاقٍ يحدث في الداخل أو الخارج، والتي تختزل في طيّاتها الخصوصيّة اللبنانيّة غير القابلة للتفكّك، وهي القائمة على التنوّع، ليس فقط في المذاهب والطوائف، ولكن أيضاً في الانتماءات، أو "التبعيّة" لهذا المحور الإقليمي أو ذاك، إن صحّ التعبير.

لبنان ليس جزيرة منعزلة عن محيطه، ولذلك فهو يتحمّل دائماً تردّدات أيّ صراعٍ أو مواجهة في الإقليم، ولعلّ ما يشهده من انعكاساتٍ للحرب السوريّة الدامية على أرضه كافٍ للدلالة على ذلك، معطوفاً على الصراع السعودي-الإيراني الذي قد لا يجد ترجمة أكثر تجلياً ووضوحاً من تلك التي تعكسها الساحة اللبنانية، باصطفافاتها العمودية، والتي تتحوّل إلى صفيحٍ ساخنٍ بين الفينة والأخرى.

إلا أنّ كلّ ذلك لا يعني أنّ الخطر على لبنان بات وشيكاً، وأنّه سيكون ساحة المواجهة المقبلة بين الإيرانيين والأميركيين، أو بين الإيرانيين والخليجيّين، بل إنّ المُعطيات المتوافرة تؤكد أنّ كرة النار تبقى بعيدة نسبياً عنه، إذا ما تمسّك بسياسة النأي بالنفس، ولم ينزلق من تلقاء نفسه، وبإرادته الذاتيّة، إلى قلب المواجهة، وهو ما يخشى كثيرون حدوثه، في ظلّ وجود بعض القوى التي ستعتبر نفسها معنيّة بشكلٍ مباشر بأيّ معركةٍ تحدث، وإن كانت أيّ تصريحات علنيّة بهذا المعنى لا تزال غائبة عن المشهد العام.

ولعلّ ما يعزّز وجهة النظر هذه ما يُحكى عن رسائل "طمأنة" وصلت إلى القيادات السياسية اللبنانية خلال الأيام الماضية، أبرزها جاءت خلال زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى السفير ​ديفيد ساترفيلد​ الأخيرة إلى لبنان، والتي لم تتّسِم بالسلبية التي طبعت زيارته السابقة مثلاً، حين قاطع رئيسي الجمهورية والبرلمان. وكان لافتاً ما سُرّب عن أنّ ساترفيلد وضع المسؤولين اللبنانيين في جو التطورات في المنطقة، ومساعي بلاده لتفادي نشوب مواجهة ساخنة، علماً أنّ القطبة المخفيّة في تحييد لبنان تبقى برأي كثيرين في مكانٍ آخر، وتحديداً في ملفّ ترسيم الحدود الذي لا يزال عالقاً بين لبنان وإسرائيل.

إلى الحوار دُر...

عموماً، لا يكفي القول إنّ لا خطر على لبنان لضمان تحييده عن المواجهة، لأنّ أيّ معركةٍ تحصل في الإقليم ستنعكس تلقائياً على الوضع الداخليّ، خصوصاً في ظلّ "تبعيّة" العديد من الأفرقاء لهذا الطرف أو ذاك، وهذا المحور أو ذاك. ولعلّ التجارب السابقة التي حدثت، من الحرب السوريّة التي دخلت معظم العواصم على خطّها، إلى الحروب الباردة المتكرّرة بين ​السعودية​ وإيران، مروراً بحرب اليمن التي لم تنتهِ فصولاً بعد، تؤكد هذا المنحى، بل إنّ البعض يعتبر أنّ لبنان يدفع ثمن هذه "العداوات" أكثر من أصحابها أنفسهم.

أكثر من ذلك، ثمّة من بدأ يرصد مؤشّرات غير مطمئنة، بل مقلقة إن جاز التعبير، على صعيد العلاقات بين القوى السياسية اللبنانية، يمكن ربطها بتطورات الإقليم، بشكلٍ أو بآخر، خصوصاً في ضوء الإيحاء بأنّ "الهدنة" التي كانت قائمة إلى حدّ ما بين الأفرقاء قد سقطت عملياً. وقد تكون العلاقة الآخذة في التفاقم بين "​حزب الله​" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" المثال الفاقع على ذلك، خصوصاً بعد عجز الوساطات التي دخل رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ على خطها، في تقريب وجهات النظر حتى الساعة، بعد لقاءٍ بقي "يتيماً" جمع قيادتي الجانبين، علماً أنّ ثمّة من يقول إنّ النائب السابق ​وليد جنبلاط​، المعروف بقدرته على رصد التحوّلات في المنطقة بدقّة، يراهن على ما يحصل اليوم لاستعادة الدور الذي فقده في الداخل خلال الأشهر الماضية، وخصوصاً بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، التي أفقدته دور المؤثر بوصفه "بيضة قبّان" بين الفريقين المتخاصمين.

من هنا، يكتسب الحوار بين القيادات اللبنانية، اليوم قبل الغد، أهمية قصوى، لأسبابٍ عدّة، أولها منع أيّ "مغامرات فردية" يمكن أن يندفع إليها هذا الفريق أو ذاك، من باب "الشهامة" أو "المروءة" أو "القومية" أو ما شابه من مصطلحات، وثانيها ترسيم الاستراتيجية الدفاعية إن جاز التعبير، بمعنى تحديد حدودها، وبالتالي وضع أسُسٍ واضحة ودقيقة لها، لا يجوز لأحد تخطّيها، ولكن قبل هذا وذاك، لتحقيق نوعٍ من التوافق الداخلي على سبل مواجهة ما يُرسَم للمنطقة، خصوصاً أنّ الجميع يدركون أنّ مثل هذا التوافق قد يشكّل "الحصانة" الوحيدة المتبقية للبنان للمواجهة، باعتبار أنّ التشتّت والانقسام لن يؤديا إلا إلى سقوط لبنان في المستنقع، بل سيشكّلان رسالة واضحة إلى المحيط والبعيد بأنّه يشكّل بيئة خصبة، وربما مثالية، لتصفية الحسابات، إن أرادوا.

الحوار ليس الحلّ؟!

قد لا يكون الحوار بحدّ ذاته هو الحلّ لتحصين لبنان من كلّ ما يُحاك للمنطقة، إذا لم يقترن بإرادةٍ جدية يجسّدها جميع الأفرقاء من دون استثناء، وإلا تحوّل إلى مجرّد شعارات، كما حصل في جولاته السابقة، وكما حصل بسياسة النأي بالنفس التي بقيت على حبراً على ورق.

يقول البعض إنّه لهذا السبب بالتحديد، يتأنّى رئيس الجمهورية في الدعوة إلى هذا الحوار، لأنّه لا يريد أن يكون مجرّد "فولكلور"، ويسعى إلى ضمان مقوّمات نجاحه سلفاً، تفادياً لسيناريو شبيه بـ "إعلان بعبدا" الذي بقي حبراً على ورق، على رغم تغنّي الكثيرين به بوصفه "إنجازاً".

ولكن، وأبعد من هذه الاعتبارات، يبقى الأكيد أنّ على لبنان عدم النوم على حرير التطمينات التي تأتيه من هنا أو هنالك، والعمل جدياً لتفادي أيّ انعكاساتٍ سلبيّة عليه في الوقت الراهن، خصوصاً أنّه ليس جاهزاً لأيّ خضّة أو هزّة جديدة، وهو الذي يسابق الوقت لتلبية شروط "سيدر" للنهوض باقتصاده، أو بالأحرى، لمنع الانهيار...