في خضمّ التوتّر المتصاعد في المنطقة، على وقع تفاقم الصراع السعودي-الإيراني، والتهديدات المتزايدة بإمكان نشوب حربٍ إقليميّة ساخنة أو باردة، جاءت دعوة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى قمم طارئة، عربية وإسلامية وخليجية، في مكة المكرّمة نهاية الشهر الجاري.

وإذا كان الهدف شبه المُعلَن من هذه القمم هو توحيد الموقف العربيّ إزاء ما يحصل في المنطقة، في ضوء تصاعد اللهجة الأميركية في مواجهة إيران، وبعد الاعتداءات التي طاولت أهدافاً حيوية في ​السعودية​ والإمارات، والتلويح بالمزيد منها في القادم من الأيام، فإنّ الأنظار تتّجه سلفاً إلى ​لبنان​، "المتمايز" دوماً في مقاربته للتطورات.

فهل ينجح لبنان في تجاوز اختبار قمّة مكّة، متكئاً كعادته على ​سياسة النأي بالنفس​، التي ابتدعها منذ بدء الأحداث السورية، ويستمرّ بتطبيقها في معظم الملفات التي ينقسم اللبنانيون حولها؟ والأهمّ من ذلك، هل يقتنع العرب بمثل هذا المبدأ، وهم الذين ينشدون إجماعاً عربياً لا لبس فيه، لمواجهة أيّ تحوّلاتٍ يمكن أن تطرأ في المنطقة؟.

هل ينفع النأي بالنفس؟!

خلال حفل إفطار رمضاني يوم الأحد، قال رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، الذي تشير المعطيات إلى أنه من سيرأس الوفد اللبناني إلى قمّة مكة، إنّ التوافق على سياسة النأي بالنفس وعدم التدخل بالشؤون الداخليّة للدول العربيّة كان هدفه حماية لبنان من صراعات المنطقة، محذراً من أنّ أيّ خرق لهذا التوافق يشكّل دعوة مباشرة لضرب مصالح لبنان واللبنانيين في الدول العربيّة.

بالنسبة لكثيرين، بدا هذا الكلام تمهيداً للموقف اللبناني الرسمي المرتقَب في قمّة مكة، موقف يحاول بشكلٍ أو بآخر إقامة توازنٍ بين الخصوصية اللبنانية التي تتطلب النأي بالنفس عن صراعات المنطقة، منعاً لوصول شظاياها إلى الداخل اللبناني المنقسم على نفسه أصلاً، وبين الرغبة بالحفاظ على العلاقات المتينة مع الدول العربيّة، والتي بالكاد بدأت تستعيد عافيتها في الآونة الأخيرة.

لكن، إذا كان لبنان يراهن على سياسة "النأي بالنفس" لتجاوز امتحان القمّة الطارئة، باعتبارها بوابة الأمان للبنان، فإنّ تساؤلاتٍ كثيرة تُطرح عن مدى نجاعة مثل هذا الخيار عربياً، أو بمعنى آخر، مدى جاهزية العرب لـ"تفهّم" مثل هذا التمايز اللبناني اليوم، خصوصاً أنّ الدعوة السعوديّة إلى القمّة في هذا التوقيت بالتحديد، تحمل بين طيّاتها رسالة واضحة بضرورة تحقيق إجماع عربي واضح، يمكن توظيفه في المواجهة القائمة، والتي يبدو أنّها بلغت ذروتها.

ولعلّ ما يعزّز مثل هذه الهواجس ما يكرّره الكثيرون في دول الخليج خصوصاً، عن أنّ أيّ نأي لبناني بالنفس يضرّ بلبنان أولاً، ليس فقط لكون الأخير لا يمكن أن يقف في وجه الإجماع العربي، أو أن يتحدّى أحداً وهو الذي ينشد استعادة العلاقات الطيّبة مع الجميع، في ظلّ وضعه الاقتصادي شبه المنهار، ولكن قبل ذلك لكون لبنان سيكون على رأس دائرة الاستهداف في حال تدهور الأمور في المنطقة لا سمح الله.

وأكثر من ذلك، ثمّة في الخليج من يقول إنّ لبنان لا يمكنه أن يقف على الحياد إزاء اعتداءاتٍ واضحةٍ طاولت أهدافاً سعودية وإماراتية حيوية،على غرار الهجوم الذي استهدف سفناً تجارية في المياه الإقليمية لدولة الإمارات وما قام به الحوثيون، المدعومون من إيران، من هجوم على محطتي ضخ نفطيتين في السعودية، ولو كانت إيران تتحكّم، عبر أدواتها الداخلية المعروفة، بسياساته الخارجية، بشكلٍ أو بآخر.

لبنان مُحرَج؟!

بعيداً عمّا يمكن أن تحمله الأيام الفاصلة عن قمّة مكة الطارئة من تطورات يمكن أن تقلب الصورة العامة، فإنّ الملامح الأولى توحي بأنّ لبنان سيكون "مُحرَجاً" مرّة أخرى، وهو الواقع بين مطرقة عدم استفزاز ​الدول العربية​ عبر تغريده خارج سرب الإجماع، إن حصل، وبين سندان عدم معاداة إيران، التي تربطه بها أيضاً علاقاتٌ جيّدة، فضلاً عن وجود قوى سياسية وازنة داخله مؤيّدة لها، بل متّهمة بالتبعية لها.

إزاء ذلك، يتحدّث البعض عن "مَخرَجٍ" لتفادي أيّ "غضب" عربي يعيد السيناريو الذي حصل قبل عامين، والذي لم تنته ذيوله بعد، يقوم أولاً على أن يكون الحريري هو من يرأس الوفد، بما يريح الدول العربيّة التي تربطها به علاقات مميّزة، وثانياً على حصر النأي بالنفس بما يخصّ لبنان فقط، أي بمسألة "​حزب الله​" في حال تصنيفه "منظمة إرهابيّة" في قرارات القمّة الطارئة، وهو ما يمكن أن يتفهّمه العرب الذين يدركون أنّ الحزب يبقى مكوّناً أساسياً من المجتمع اللبناني، أثبتت الانتخابات النيابية الأخيرة عدم جواز التنكّر له أو القفز فوقه، فضلاً عن كونه جزءاً من الحكومة اللبنانية المعترف بها دولياً.

ولكن، في مقابل هذا "المَخرَج"، إن صحّ التعبير، ثمّة من يسأل عن انعكاسات "تصديق" لبنان على بيانٍ "معادٍ" لإيران في القمّة العربيّة، وعن موقف القوى المؤيّدة لإيران من ذلك في هذه الحال، وتحديداً "حزب الله"، علماً أنّ هناك من خصوم الحزب من يطرح في المقابل تساؤلاتٍ عن مدى إمكان تمسّك الأخير بسياسة النأي بالنفس في حال حصول أيّ معركة إقليميّة، في ظلّ تسريباتٍ عن أنّ الحزب سيتدخّل لمساندة حليفته ودعمها، تماماً كما فعل في ​سوريا​ في السابق، دعماً للنظام الحاكم، بحجّة منع كرة النار من الوصول إلى الداخل اللبناني، وهي ذريعة قد تكون صالحة للاستخدام مجدّداً.

عموماً، يشير العارفون إلى أنّ الأمر يمكن أن يبقى مضبوطاً، طالما أنّ الحرب في المنطقة لم تقع، خصوصاً أنّ معظم القوى السياسية لا ترغب في الذهاب إلى صدام غير محمود النتائج، وبالتالي فإنّ التوافق على "تمرير" القمّة الطارئة "بالتي هي أحسن"، ومن دون أضرار على العلاقات اللبنانية-العربية، وخصوصاً اللبنانية-الخليجية، قد يكون الحلّ الأسلم، بما يمكن أن يحيّد لبنان عن مواجهة ليس جاهزاً لها ولا مستعداً لتحمّل ذيولها، وهو المنهمك اليوم بأولويات مختلفة تماماً، وسط بحثه عن الآليّات الكفيلة بإنقاذ اقتصاده من الانهيار.

بحثاً عن "المَخرَج"...

مجدّداً، يجد لبنان نفسه في موقفٍ لا يُحسَد عليه. لا يمكنه أن يغرّد خارج الإجماع العربي، أو أن يقف على الحياد، إزاء الاعتداءات التي وقعت أخيراً، ولو كان هناك في الداخل من يعتبر بعض هذه الاعتداءات "ردّة فعل" على ما يحصل في اليمن وغيره. وفي الوقت نفسه، لا يمكنه معاداة إيران، فيما القوى المؤيدة للأخيرة تشكّل جزءاً محورياً من حكومته الشرعيّة، لا يمكن التخلي عنها بأيّ شكلٍ من الأشكال.

ربما لا يحسد أحد لبنان على موقفه هذا، لكنّ الأكيد أنّ اللبنانيين وحدهم قادرون، باتفاقهم الداخليّ، على ابتداع "المَخرَج" الذي يسمح لهم بتجاوز الاختبار، ليس بأقلّ الأضرار، بل من دون أضرارٍ على الإطلاق، وإن تطلّب ذلك تجاوز الكثير من الشكليّات، التي لا يبدو التوقيت مناسباً للغوص في تفاصيلها وبالتالي الغرق في دهاليزها...