بحجّة أن لا يدهمنا الوقت عشيّة الإنتخابات-كما في كل مرّة، قام رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​ خلال الأسابيع القليلة الماضية، بتحريك فكرة البحث في ​قانون الإنتخابات​ النيابيّة، وأعطى "​الضوء​ الأخضر" لوفد من "​كتلة التنمية والتحرير​"، للإنطلاق في جولة مُشاورات واسعة مع مُختلف الكتل النيابيّة، لعرض مشروع قانون إنتخابي جديد عليها، يعتمد مبدأ النسبيّة الكاملة بدون صوت تفضيلي و​لبنان​ دائرة إنتخابيّة واحدة(1)، علمًا أن هذا المشروع جاء كخُلاصة عمل للجنة خاصة تمّ تشكيلها لهذا الغرض(2). فما هي مواقف الكتل السياسيّة الرئيسة من هذا القانون، علمًا أنّ جولات وفد "كتلة التنمية والتحرير" لا تزال في بدايتها؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ مشروع القانون المرفوع من جانب كتلة "​حركة أمل​" لا يدخل ضمن المُناورات السياسيّة، وهو عبارة عن مشروع إنتخابي جدّي يتعدّى حتمًا مسألة "جسّ النبض"، في ظلّ وُجود نيّة لدى رئيس مجلس النوّاب لرفعه إلى ​المجلس النيابي​ في الوقت المناسب، في حال توفّر أغلبيّة نيابيّة تسمح بتصديقه. وبحسب المعلومات المُتوفّرة، إنّ القانون الجديد المُقترح ينطلق من "ثغرات" القانون الحالي، خاصة لجهة إعتباره من قبل بعض الجهات نسخة مُصغّرة من ​القانون الأرثوذكسي​، لتقديم بدائل تُخرج عمليّات التصويت من التقوقع المذهبي والطائفي. وليس بسرّ أنّ طرح لبنان دائرة واحدة وفق النسبيّة الكاملة، يستهوي "الثنائي الشيعي" لما يتمتّعان به من غلبة عدديّة(3)، وهو يحظى أيضًا بتأييد بعض الأحزاب والقوى التي تدور في فلك "حركة أمل" و"​حزب الله​"، خاصة تلك التي يتوزّع مؤيّدوها على جماعات مُشتّتة جغرافيًا وموزّعة طائفيًا ومذهبيًا.

والأكيد–بحسب أكثر من خبير إنتخابي، أنّ من شأن إلغاء "الصوت التفضيلي"، وخُصوصًا توسيع الدوائر الإنتخابيّة وصولاً ربما إلى إعتماد لبنان دائرة واحدة، أن يُبدّل النتائج التي ظهرت خلال إنتخابات العام 2018 الأخيرة، وأن يُبدّل توازيًا التوازنات السياسيّة التي نجمت منه. فالثنائي الشيعي كسب وحده تأييد نحو ثلث الناخبين على مُستوى لبنان خلال الإنتخابات الماضية. وفي حال إضافة مجموع ما حصدته الأحزاب والقوى المؤيّدة لمحور "المُقاومة والمُمانعة"(4)، يرتفع الرقم بأكثر من مئة ألف ناخب سيصبّون كلّهم في لائحة واحدة جامعة، الأمر الذي سيُعطي "حزب الله" و"حركة أمل" أفضليّة كبرى على باقي القوى التي تفتقر إلى قُدرة "الحزب" على توحيد صُفوف مؤيّديه.

في المُقابل، إنّ "التيّار الوطني الحُرّ" الذي تمكّن من الفوز بكتلة نيابية وازنة، لا يُمكنه تحقيق النتائج نفسها في قانون يعتمد لبنان دائرة واحدة ويُلغي "الصوت التفضيلي"، على الرغم من أنّه نال مع حلفائه من المُرشّحين الرابحين والخاسرين على السواء، ما مجموعه 240,490 صوتًا تفضيليًا. والأمر نفسه ينطبق على حزب "القوات اللبنانيّة" الذي كان نال مع حلفائه 162,078 صوتًا تفضيليًا. وبالتالي، وإذا كان كلّ من "التيّار" و"القوّات" قد تجنّبا حتى الساعة التعليق سلبًا على مشروع القانون الإنتخابي الجديد المُقترح، في إنتظار الوُقوف على تفاصيله، فإنّهما يُعارضان من حيث المبدأ كل الطروحات الإنتخابيّة التي تُعطي الأولويّة للأعداد، باعتبار أنّ عدد المسيحيّين في دورة إنتخابات العام 2018 النيابيّة بلغ ما نسبته 38% فقط من إجمالي الناخبين اللبنانيّين، والرقم في تصاعد مُستمرّ لصالح الناخبين المُسلمين. ومن المُنتظر أن يكون هذا الملفّ بالتحديد، سببًا وراء توحّد "التيّار" و"القوّات" مُجدًدًا في المستقبل، بعيدًا عن كل الخلافات التي عادت لتطفو من جديد بينهما، وذلك لأنّهما كانا قد إعتبرا أنّ تحرير أكثر من خمسين مقعدًا نيابيًا مسيحيًا من طُغيان الأكثريّات إنتصارًا تاريخيًا يجب ​البناء​ عليه لتحسين التمثيل المسيحي أكثر فأكثر في الدورات المُقبلة، وهما لن يقبلا بأي شكل من الأشكال العودة بالتاريخ إلى الوراء، بحجة إستبدال الطائفية بالوطنيّة في الظاهر، وتطبيق الأغلبيّة العدديّة في المضمون!.

أكثر من ذلك، إنّ "الحزب التقدّمي الإشتراكي" الذي كان نال 88,268 صوتًا تفضيليًا، لا يُناسبه الغرق في أغلبيّة عدديّة على مُستوى لبنان دائرة واحدة، شأنه في ذلك شأن مُختلف الأقليّات العدديّة المذهبيّة. حتى أنّ "تيّار المُستقبل" الذي نال 256,092 صوتًا تفضيليًا في الإنتخابات النيابيّة الأخيرة، غير مُتحمّس لمُحاصرته بتكتلات سياسيّة واسعة على إمتداد الجغرافيا اللبنانيّة.

في الختام، صحيح أنّ ​الدورة​ المُقبلة من الإنتخابات النيابيّة يُفترض أن تتمّ في ربيع العام 2022، أي بعد نحو ثلاث سنوات، لكنّ الأصحّ أن تحريك ملف قانون الإنتخابات من اليوم يُخفي نيّات جدّية بسعي بعض الأطراف إلى مُمارسة كل الضُغوط السياسيّة المُمكنة لتغيير القانون، أو على الأقلّ للمُساومة عليه في مُقابل تنازلات مُعيّنة. وهذا الأمر سيفتح الباب واسعًا أمام جملة إعتراضات في المُستقبل، مع إحتمال أن يتسبّب الإصرار على تعديل القانون الحالي بتبديل للتحالفات القائمة حاليًا، وبتفجّر مُعارضة مسيحيّة واسعة وحازمة ضُدّ أي طُروحات من شأنها أن تُخلّ ب​التوازن الطائفي​ الهشّ القائم بين المسيحيّين والمُسلمين، وبقُدرة كل طائفة على إيصال نوّابها بقواها الذاتيّة.

(1) ينصّ على إعتماد لبنان دائرة إنتخابيّة واحدة بدلاً من 15 دائرة إنتخابيّة كما هي الحال في القانون الحالي، وكذلك على إلغاء مسألة "الصوت التفضيلي" لصالح إعتماد التراتبيّة الإسميّة ضُمن لوائح مُغلقة، على أن تتوالى أسماء المُرشّحين في هذه اللوائح وفق تراتبيّة إسميّة تسلسليّة، وتكون حُظوظ النجاح أكبر للمُرشّح الذي يحظى بتراتبيّة أعلى في اللائحة.

(2) رفعت اللجنة التي شكّلتها "كتلة التنمية والتحرير" لإعداد إقتراح قانون جديد للإنتخابات النيابيّة، خلاصة مشروعها إلى "الكتلة" التي عقدت في شهر نيسان الماضي إجتماعًا برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وافقت خلاله على مشروع قانون الإنتخاب الجديد بعد إدخال بعض التعديلات عليه.

(3) خلال الدورة الإنتخابيّة النيابيّة الأخيرة، نال "حزب الله" 343,220 صوتًا تفضيليًا، ونالت حركة "أمل" وحلفاؤها 204,199 صوتًا تفضيليًا، ما يعني أنّ "الحزب" و"الحركة" جذبا وحدهما 547,419 مُقترعًا، من أصل مامجموعه 1,759,068 صوتًا تفضيليًا (عند إحتساب المُرشّحين الفائزين والخاسرين) توزّعت على مُختلف القوى والشخصيّات السياسية التي شاركت في الإنتخابات.

(4) نال "تيّار المردة" 31,206 صوتًا تفضيليًّا، والحزب "السوري القومي الإجتماعي" 23,881 صوتًا تفضيليًا، وجمعيّة "المشاريع الخيريّة الإسلاميّة" 18,759 صوتًا تفضيليًا، وحزب "الإتحاد" 15,111 صوتًا تفضيليًا، و"التنظيم الشعبي الناصري" 9,916 صوتًا تفضيليًا، وحزب "البعث العربي الإشتراكي" 7,171 صوتًا تفضيليًا، إلخ.