هي "شبه هدنة" تمرّ بها العلاقة بين "​حركة أمل​" و"​التيار الوطني الحر​" منذ فترة ليست بالبسيطة، غُيّبت معها الخلافات الإشكاليّة بين الجانبيْن عن دائرة الضوء، ليسود بدلاً منها ما يمكن توصيفه بالتفاهم الناجم ربما عن "المساكنة" بينهما على طاولة حكومةٍ واحدة.

وإذا كان ذلك انعكس على خطّ العلاقة بين رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ورئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ التي شهدت تحسّناً نوعياً في الفترة الأخيرة، فإنّ "الحذر" بقي في المقابل سيّد العلاقة بين بري ورئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية ​جبران باسيل​، اللذين لا يُعتقَد أنّهما اجتازا "مطبّات" الماضي.

ولعلّ ما حصل في جلسات مجلس الوزراء التي خُصّصت لبحث مشروع الموازنة دلّت على هذا "الخلل" من خلال السجالات العلنيّة التي دارت بين باسيل ووزير المال ​علي حسن خليل​ المحسوب على بري، ما ينبئ برأي كثيرين بمرحلة جديدة من "المواجهة"، لن تكون محصورة بالموازنة وتبعاتها بطبيعة الحال...

ملاحظات متبادلة

منذ ما قبل تشكيل الحكومة الحاليّة، كان موضوع الموازنة من الملفّات التي يُعتقَد أنّها ستوحّد "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل"، في الشكل وفي المضمون على حدّ سواء. ويذكر ال​لبنان​يون في هذا السياق، أنّ بري كان يدفع إلى جلسةٍ لحكومة تصريف الأعمال لبحث الموازنة بسبب التلكؤ في تشكيل حكومة جديدة، من دون ممانعة من "التيار"، وسط اتفاقٍ بين الجانبيْن أيضاً على ضرورة أن تكون هذه الموازنة مختلفة عن سابقاتها، وتلحظ خفضاً فعلياً لا كلامياً للعجز، تلبية لشروط مؤتمر "سيدر"، وربطاً بالورشة الإصلاحية القائمة.

لكن، وعلى رغم "وحدة الهدف" التي كان يفترض أن توحّد الجانبين لا أن تفرّقهما، فإنّ الجلسات الوزاريّة المخصّصة لبحث الموازنة والتي فاقت 17، لم تمرّ بالسلاسة المفترضة، بل إنّ السجالات العلنيّة بين الوزيرين باسيل وخليل، والتي تخطّت قاعة الاجتماعات في السراي الحكومي ووصلت إلى الإعلام، أعادت إلى الضوء العلاقة "الجدليّة" بين الجانبين، في ظلّ اتهاماتٍ متبادلة بـ"الاستفزاز"، قد يختصرها قول خليل قبيل إحدى الجلسات إنّ الموازنة بالنسبة إليه انتهت، ليردّ باسيل سريعاً معلناً أنّ الموازنة تنتهي عندما تنتهي.

ولعلّ المأخذ الأساسيّ الذي ينطلق منه خليل هو أنّ باسيل يتصرّف وكأنّه رئيس الحكومة ويريد أن يكون صاحب القرار في كلّ شيء، ويحرّك الموازنة كيفما شاء، أو ربما وزير الظلّ، تماماً كما يفعل في العديد من الوزارات المحسوبة ضمن حصّة تيّاره، وهو ما لا يمكن أن ينطبق على وزارة المال التي لها وزير سياديّ واحد، علماً أنّ ثمّة داخل الحكومة من يتّهم "التيار" بالوقوف في مكانٍ ما خلف العديد من التحركات والاحتجاجات التي سعت إلى "التشويش" على الموازنة، أو ربما الضغط على الوزراء بشكلٍ أو بآخر.

وإذا كان باسيل ينطلق في المقابل من ضرورة أن تنسجم الموازنة، التي يتفق الجميع على أنّها استثنائية وغير مسبوقة في تاريخ الموازنات، مع الرؤية الاقتصادية الإصلاحية التي يسعى إلى تطبيقها في إطار "العهد القوي"، بدليل التوصّل إلى قرارات استثنائية ما كان بالإمكان الوصول إليها في ظروفٍ أخرى، يعتبر وزير المال أنّ باسيل يسعى لتحقيق "البطولات"، تارةً عبر طرح ورقة إصلاحيّة، وطوراً عبر القول إنّه غير راضٍ عن النتيجة، فيما كانت النقاشات بالموازنة التي أعدّها توشك على النهاية، وكأن المطلوب إضافة الموازنة إلى سجلّ "إنجازاته الشخصية"، وليس أكثر.

أبعد من الموازنة...

عموماً، يرى كثيرون أنّ الخلاف بين "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل" حول موضوع الموازنة، والذي تجلى بوضوح خلال الأيام القليلة الماضية داخل مجلس الوزراء وخارجه، ليس أكثر من "وجه خفي" لمرحلة "المواجهة الجديدة" التي بدأت تلوح في أفق العلاقة بين الجانبين. فأبعد من الموازنة، ثمّة من يجزم بأنّ السبب الجوهري للمواجهة يتمثّل في ​قانون الانتخاب​، الذي كان رئيس مجلس النواب أول من يضعه على طاولة البحث.

وإذا كان بري يصرّ على أنّ طرح ملف قانون الانتخاب في هذا التوقيت يأتي مخافة "سلق الوقت" في نهاية المطاف على جري العادة، وتفادياً لتكرار السيناريوهات السابقة حين كان النواب يجدون أنفسهم مُحاصَرين بالمهل القانونية المُلزِمة، فإنّ ثمّة في "التيار" من يطرح علامات استفهام جدية عنوانها الريبة حول التوقيت، خصوصاً أنّ باسيل كان يستعدّ، بعد إنجاز الموازنة وسواها من الأولويات، لطرح تعديلاتٍ على القانون الذي جرت على أساسه الانتخابات الأخيرة، والقائم على النسبية مع الصوت التفضيلي، فإذا ببري يسبقه بطرح صيغة جديدة تطيح بالقانون السابق عن بكرة أبيه، وبكلّ الإنجازات التي لا يزال "التيار" يتغنّى بها، وفي مقدّمها الصوت التفضيلي، الذي كان البعض يدعو إلى جعله صوتين تفضيليين، لا إلغاءه نهائياً لصالح ترتيبٍ تحدّده اللوائح لنفسها.

ومع أنّ بري حاول أن يوحي بانفتاحه على النقاش حول الصيغة التي يطرحها، من خلال الجولة التي باشرها وفد من كتلة "التنمية والتحرير" التي يرأسها على مختلف القوى السياسية، لعرض القانون والاستماع إلى الملاحظات والآراء حوله، فإنّ بنود مشروع القانون تثير "الريبة" في صفوف "التيار"، بدءاً من اعتماده لبنان دائرة انتخابية واحدة، وهو ما سبق أن أخذ قسطاً وافراً من النقاش، وكان "التيار" من رافضيه انطلاقاً من الخصوصية اللبنانية، وصولاً إلى بعض التفاصيل التي أثيرت في الإعلام في الآونة الأخيرة، على غرار سماح القانون، عبر آلية تحديد الفائزين بموجبه، للوائح الكبرى بالتآمر لإسقاط مرشحين أقوياء، والمقصود هنا ليس سوى باسيل بطبيعة الحال.

نكايات وأكثر...

يُحكى دائماً عن العلاقة الجدلية بين "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل"، ويُحكى أكثر عن "الكيمياء المفقودة" بين بري وباسيل، اللذين لا يتردّد البعض في القول إنّهما يكادان يختلفان حتى في الأمور المشتركة بينهما، فقط من باب "النكاية"، وليس أكثر.

ومع أنّ المرحلة الماضية خلت من الخلافات العلنية الواضحة بين الجانبين، فإنّ ما كان أوضح، خصوصاً على ​وسائل التواصل الاجتماعي​، أنّ القاعدة الجماهيرية لكلّ منهما لم تكن تفوّت الفرصة للتصويب على الآخر واستفزازه، كلما سنحت الفرصة، أو حتى من دون أن تسنح.

وسواء امتدّت المواجهة المستجدّة من الموازنة إلى قانون الانتخاب وربما ما هو أبعد من كليهما، أم تمّ حصرها بشكلٍ أو بآخر من قبل "سعاة الخير"، فإنّ الأكيد أنّ أيّ "رهانات" على تكريس "تحالف" بينهما ليست واقعية، لأنّ ما في النفوس يبقى أقوى من كلّ ما عداه...