لا نكاد في لبنان ان ننتهي من مشكلة، الا وتواجهنا مشكلة قد تكون مغايرة لها، او تعود الى الظهور مجدداً بعد استيقاظها من سبات تختلف مدّته بين قضية واخرى. اليوم، وفي خضم معمعة الموازنة التي بات من المتوقّع ان يتمّ اقرارها رسميا في مجلس الوزراء واحالتها الى مجلس النواب، عاد مارد توطين اللاجئين ال​فلسطين​يين الى الاستيقاظ مجدداً، ولا يحتاج الامر الى الكثير من الجهد والبحث لملاحظة ان عبارة "​اللاجئين الفلسطينيين​" باتت في الايام القليلة الماضية على كل شفّة ولسان في لبنان، وشكّلت مادة دسمة للقاءات كثيرة بين اللبنانيين من جهة، وبينهم ومسؤولين اجانب من جهة ثانية.

هذا الموضوع بالغ الحساسية بالنسبة الى اللبنانيين لاسباب ذكرناها اكثر من مرة سابقاً ولن نعود اليها مجدداً منعاً للتكرار، ولكنها لا تزال فاعلة وموجودة، واتت مواضيع على غرار "​صفقة القرن​" والنشاط اللافت اخيراً للجنة الفصائل الفلسطينيّة واحداث مخيم الميّة وميّة في لبنان، لتعيد الكلام عن انطلاق عجلة ​التوطين​ من اكثر من جهة ومصدر.

وبما أن التوقيت يشكّل عنصراً مهماً، لا بل اساسياً في تطور الاحداث في المنطقة، فإنّ الصدفة "مريبة" في تزامن انعقاد جلسة تمهيديّة لانطلاق الحوار اللبناني-الفلسطيني في السراي الحكومي (واتفاق على عقد اجتماع بعد عيد الفطر)، والمؤتمر الذي ستستضيفه البحرين تمهيداً للاعلان عن "صفقة القرن"، ناهيك عن الاتفاق الذي عقد بين الفصائل الفلسطينيّة في المخيّم والجيش اللبناني لالغاء الحالة الامنيّة فيه، وكلام رئيس الجمهورية امام رئيس لجنة الشؤون الخارجيّة في الكونغرس الأميركي حول وجوب اعادة اللاجئين الفلسطينيين، واخيراً دعوة الامين العام لـ"حزب الله" للوقوف صفاً واحداً ضد التوطين والاطاحة ب​حقوق الفلسطينيين​... كلها امور يجب التوقّف عندها وقراءة بعض معانيها.

يجدر التعاطي مع الامور بموضوعيّة وواقعيّة، وبدل التلهّي بكلمات رنّانة، يجب ايجاد حلّ لمنع تحوّل اللاجئين الى امر واقع بعد اكثر من 70 عاما على وجودهم في لبنان، كما اصبحت اسرائيل دولة بحكم الامر الواقع ومرور الزمن. قد يكون الحلّ في ظل رفض اسرائيل عودتهم وعدم قدرة العرب على فرض هذه العودة، وعدم رغبة الدول الكبرى فيها ايضاً، ان يتم العمل على ايجاد دول بديلة تسمح لها اماكاناتها ومساحاتها الجغرافية الشاسعة في استقبال هذا العدد، اضافة الى اعادة نشاط منظمة "الاونروا" الذي تمّ شلّه عبر قطع التمويل عنها بدل العمل على اصلاحها وتغيير سياستها لتتلاءم اكثر مع حاجات اللاجئين، والعمل بالتوازي على ضمان عودتهم الى منازلهم واراضيهم، بدل "الاعتياد" على سماع مواقف تنادي باعطاء الفلسطينيين في لبنان حقوق التملّك والعمل والاندماج في المجتمع، وكلها عوامل ترسّخ التوطين تحت ستار الانسانيّة.

انّ الكلام الذي يتمّ ترداده في الصالونات السياسية، مفاده ان هناك حلولاً ستعطى للدول المضيفة للاجئين الذين سيتم توطينهم فيها، وفي مقدّمها الحلول الاقتصادية للمشاكل التي تعاني منها هذه الدول، اضافة الى الحلول اللوجستية تتمثل بمساعدات ملموسة ومعنويّة. لا احد يشكّك في أن الدول الكبرى قادرة بالفعل على اعطاء مثل هذه الحلول، ولكن المشكلة تتمحور حول قدرة الدول المضيفة (وفي مقدمها لبنان)، من التأقلم مع هذا الوضع الجديد الذي قد يُفرض عليه. وفي حال حصول التوطين، من المؤكّد ان الفترة القصيرة التي ستلي القرار ستكون زاهرة ومليئة بالامل ومدعّمة بمساعدات وتمويل وغيره، ولكن ماذا بعدها؟ هل يمكن للبنان ان يتحمّل التوطين ولو اتى بقناع تعزيز اقتصاده لفترة محدّدة من الزمن؟ وهل يمكن التصديق بأنّ الاقتصاد لن يشهد انتكاسات مهمّة في السنوات القليلة المقبلة؟ وهل ستبقى الامور طبيعية في حال التوطين الفلسطيني الذي سيستتبع دون ادنى شكّ بمشروع آخر لتوطين ​النازحين السوريين​؟ هل الأموال والدعم الاقتصادي سيكفيان لضمان الأمن الاجتماعي والأمن السياسي والأمن العسكري؟!.

ان الخوف من التوطين مشروع، لانه بالنسبة الى الدول الكبرى يشكّل حلاً رائعاً لمسائل كبيرة تبدأ بالوضع في المنطقة، ولا تنتهي باقامة دولة يهوديّة "تقضم" ما تبقى من حقوق الفلسطينيين. ولكن هذا "الحل المثالي" بالنسبة لها، سيكون هو نفسه بمثابة "رصاصة الرحمة" على لبنان واللبنانيين الذين سيكونون امام مشهد ثوري سيغيّر ملامح بلدهم وقدراتهم وطريقة معارضتهم لأيّ شكل من اشكال التوطين.

ليس الربط بين الحركة الاميركيّة تجاه لبنان من جهة و"الرغبة السريعة" لانهاء ملف ترسيم الحدود الجنوبيّة، بغريب او بعيد عن المنطق، كما انه ليس غريباً ايضاً سماع الفصائل الفلسطينيّة تطالب بـ"حقوقها" في لبنان باعتبار اللاجئين "ضيوف" هذا البلد فيما الواقع يظهر ان هؤلاء "الضيوف" يتمتّعون بميزات عديدة لا تتوفر لهم حتى داخل فلسطين من حمل سلاحٍ داخل المخيمات، الى استقبال هاربين وارهابيين، الى تهديد أمن المناطق الملاصقة للمخيّمات...

يبدو أن مارد التوطين قد استفاق مجدداً، وهذه المرّة يجب علينا جميعاً مواجهته لأنّ لحظة الحسم قد اقتربت.