في الرسالة التي وجهها أربعمئة عضو من مجلس النّواب والشيوخ الأميركيين "الديمقراطيين" و "الجمهوريين" إلى الرئيس ​دونالد ترامب​ لإقرار "استراتيجية جديدة" حول سورية، نكتشف وبما لا يدع مجالاً للشكّ أبداً سرّ وهدف السياسة الأميركية في ​الشرق الأوسط​ ونتيقن من أنّه علينا أن نفكّر ملياً باللغة التي يستخدمونها وأن نترجمها إلى لغة حقيقية تكشف عمق ما يريدون فعله، ولنبدأ من البداية فالاستراتيجية الجديدة التي وقّع عليها أربعمئة عضو من أصل 535 من مجلسي النواب والشيوخ ليست حول سورية أبداً، بل هي في الحقيقة حول دور ​إسرائيل​ في المنطقة والدعوة من قبل الموقعين إلى تبنيّ هذا الدور بحذافيره وبكلّ متطلباته من قبل ​الولايات المتحدة​. ذلك أنّ الرسالة التي تقع في ثلاث صفحات خلت من الإشارة إلى أيّ عامل قد يساهم في الحل السياسيّ في سورية وحتى من الإشارة إلى القرار 2254 والذي تمّ اعتباره من قبل الأمم المتحدة والمعنيون بالشأن السوري على أنّه يشكّل أساساً لهذا الحلّ. وعلى اقتباس فقرة من الرسالة تري هدف هذه الرسالة ومن هو بالفعل موضع اهتمام أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الموقعين عليها، فقد جاء في الرسالة: "يتسمّ الصراع السوري بدرجة كبيرة من التعقيد، كما أنّ الحلول المحتملة المطروحة لا تتسمّ بالمثالية، ما يبقي خيارنا الوحيد هو تعزيز السياسات التي من شأنها الحدّ من التهديدات المتصاعدة ضد مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، والأمن والاستقرار على الصعيد الإقليمي في المنطقة، وتتطلب هذه الاستراتيجية توافر القيادة الأميركية الحازمة... مع التهديدات التي يجابهها بعض من أوثق حلفائنا في المنطقة"، ومن المعلوم للجميع أنّ أوثق حلفائهم في المنطقة هو الكيان الصهيوني. وهنا نلمس أيضاً أنّ جوهر موقف الولايات المتحدة من إيران و​حزب الله​ وحتى روسيا يهدف بالأساس إلى تمكين الكيان الصهيوني من تعزيز احتلاله واستيطانه ومحاولة ضمان عدم تنامي أيّ قدرة إقليمية قد تهدّد هذا الاحتلال والاستيطان، وجاء في الرسالة "تعمل إيران في سورية جاهدة على إقامة وجود عسكري دائم من شأنه أن يهدّد حلفاءنا في المنطقة، إضافة إلى استمرار إيران في برنامجها الهادف إلى إقامة طريق سريعة مباشرة من إيران (عبر سورية والعراق) حتى لبنان ومن شأن تلك الطريق أن تسهّل على إيران إمداد (حزب الله) اللبناني وغيره من الميليشيات الموالية لإيران بالأسلحة والذخائر الفتاكة". وهنا بيت القصيد في الموقف من الحرب على سورية، إذ أنّ هذه الحرب ورغم كلّ تخطيطهم وتمويلهم لها قد أنتجت تحالفاً بين سورية وحزب الله وإيران قضّ مضاجع إسرائيل ونشر مركز الأبحاث العسكري الإسرائيلي أكثر من بحث يحذّر من خطورة هذا التحالف الجديد على أمن إسرائيل، حتى إنّ أحد الكتّاب الإسرائيليين عبّر عن تخوفه من أنّ إسرائيل لن تكون بعد اليوم قادرة على شنّ حرب ضد أيّ طرف من هذه الأطراف دون تدخل الأطراف كلّها لأنّ إحدى أخطاء حساباتهم كما قالوا في أبحاثهم هي أنّهم لم يقدّروا صلابة ​الجيش السوري​ّ كما أنّهم لم يتوقعوا أبداً مساهمة حزب الله وإيران وروسيا مع الجيش السوري في تحقيق النصر في هذه الحرب. إذاً يمكن القول أنّ موقف الولايات المتحدة من سورية وحزب الله وإيران هو التبني المطلق للموقف الإسرائيلي، وأنّ كلّ مخاوفهم من الأطراف الإقليمية الثلاثة هي مخاوف إسرائيلية بحتة، ومن هنا استنفر أعضاء الكونغرس حين أعلن الرئيس ترامب سابقاً نيته سحب القوات الأميركية من سورية، وها هي الولايات المتحدة تعلن بعد هذه الرسالة عن الدفع بقوات أميركية جديدة إلى العراق وسورية كي تضمن إشعال هذين البلدين بطريقة تمكّن الكيان الصهيوني من قضم مزيد من الأراضي الفلسطينية والعربيّة وتمرير صفقة القرن والاحتفاظ بالإرهاب والاحتلال والحصار الاقتصادي كي ينعم أقرب حلفاء الولايات المتحدة بالأمن والاستقرار في توسيع احتلالهم واستيطانهم في المنطقة برمتها. وحتى موقف الولايات المتحدة من روسيا يمكن فهمه جزئياً من خلال هذا المنظور إذ أنّ الرسالة اعتبرت أنّ تزويد دمشق بالأسلحة المتطورة مثل منظومة إس 300 يعقّد القدرات الإسرائيلية للدفاع عن نفسها ضد الأعمال العدائية المنطلقة من ​الأراضي السورية​. لاحظوا اللغة التي تُصاغ بها مثل هذه الرسائل على أعلى المستويات، فيما يعتبره كثيرون أهمّ ديمقراطية غربية (يعقد القدرات الإسرائيلية للدفاع عن نفسها)، أيّ أنّ كلّ ما تمارسه إسرائيل من احتلال وعدوان موصوف في فلسطين والجولان و​مزارع شبعا​ وفي العمق السوري هو دفاع عن النفس وضدّ من؟ ضدّ "الأعمال العدائية المنطلقة من الأراضي السورية"، وهكذا وصّف أعضاء الكونغرس الديمقراطيون والجمهوريون العدوان والاحتلال والاستيطان الإسرائيلي بأنّه دفاع عن النفس، بينما وصفوا أيّ فعل مقاومة سوريّ لصدّ العدوان وتحرير الأرض بأنّه عمل عدائي. من هنا أدعو إلى إعادة صياغة كلّ عبارة صادرة عن الغرب وحلفائه الموثوقين وإعادة كتابتها بالشكل الذي يظهر حقيقة الأمور وينبّه الأجيال إلى التضليل الإعلامي المعتمد ضد حقوقنا وبلداننا.

وبعد تحديد كلّ التهديدات على أمن إسرائيل بسبب سورية وحلفائها حثت رسالة الكونغرس الرئيس ترامب على تبني استراتيجية تتألف من ثلاثة عناصر أولها "حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس وثانيها الضغط على إيران وروسيا في سورية وثالثها زيادة الضغط على "حزب الله" وليس بخافٍ على أحد أن العناصر الثلاثة تهدف إلى خدمة الاحتلال الإسرائيلي وضمان عدم نشوء أيّ قوّة أو تحالف في المنطقة قد ينذر بتحرير الأرض من الاحتلال وإعادة الحقوق لأصحابها الشرعيين. وهكذا نرى متيقنين أنّ هدف رسالة أعضاء مجلس النواب والشيوخ للرئيس ترامب هو خدمة إسرائيل وضمان محاربة أي عامل قوّة قد ينذر بالتأثير على دور إسرائيل واستباحتها لفلسطين والجولان ومزارع شبعا. ما لم نفهم هذه العلاقة الأميركية الإسرائيلية على حقيقتها ومالم يستجمع العرب عناصر القوّة خارج إطار هذه العلاقة لن نفهم سرّ كلّ ما يجري في منطقتنا وما يتمّ تخطيطه لنا وتنفيذه ضد مستقبل أجيالنا وشعوبنا.