في ظل إرتفاع الأصوات المحذرة من الأزمة الإقتصاديّة التي تمرّ بها البلاد، هناك أصوات أخرى تسأل عما إذا كان ما يحصل راهنا لم يكن متوقعاً، نظراً إلى أن الكثير من الدراسات كانت قد أشارت إلى هذا الأمر منذ ما قبل نهاية العام المنصرم، لا سيما على مستوى توقّعات النمو في ​الدين العام​ والحاجات التمويليّة للدولة، واليوم تعرض "​النشرة​" إحدى هذه الدراسات.

كان من المتوقع، بالإستناد إلى أرقام وزارة الماليّة للأشهر التسعة الأولى من العام 2018، أن يفوق العجز العام مع نهاية السنة ما كان مقدّراً في قانون الموازنة بحوالي 1800 مليار، ويعود ذلك إلى انكماش الوضع الإقتصادي مع تفاقم الأزمة السياسية وحالة عدم اليقين، بالإضافة إلى عدم الإحاطة بشكل كامل ودقيق بانعكاسات ​سلسلة الرتب والرواتب​ و​الضرائب​ المرتبطة بتمويلها على النفقات الحكوميّة والحركة الاقتصاديّة.

على هذا الصعيد، كان من الواضح عند مقارنة أرقام الماليّة العامة في الأشهر التسعة الأولى من العامين 2017 و2018، أنّ الضرائب الإضافيّة على المصارف ومودعيها أمّنت أكثر من نصف كلفة تمويل سلسلة الرتب والرواتب، إذ أنّ الزيادة في الضريبة على فوائد الودائع لدى المصارف والضريبة على ودائع المصارف كانت 636 مليار ليرة والزيادة في الضريبة على دخل الشركات حوالي 206 مليارات ليرة، فيما بلغت زيادة النفقات العائدة إلى الرواتب والأجور وملحقاتها 1466 مليار ليرة.

وبالتالي، كان من المتوقع في حال عدم إجراء إصلاحات، أقلّها ضبط الهدر في الإنفاق واعتماد اجراءات تقشفيّة فعليّة وتحسين الجباية ومكافحة التهرب الضريبي، أن يراوح العجز العام ما بين 10 آلاف و11 ألف مليار ليرة في عامي 2019 و2020، في حين أنّ المباشرة بالإصلاحات، التي تأتي في مقدّمها معالجة أعباء شركة كهرباء لبنان والبدء بتنفيذ برنامج "سيدر"، قد يؤدّي إلى أن يبلغ العجز حوالي 9000 مليار ليرة في المتوسط. كما كان من المتوقع أن يرتفع الدين العام إلى 153% و156% من الناتج المحلي الإجمالي في عامي 2019 و2020 تباعاً في حال عدم إجراء الإصلاحات، بينما في حال إجرائها ستنخفض هذه النسبة إلى 152% و151% في السنتين المذكورتين تباعاً.

إنطلاقاً مما تقدّم، يتبين أن النقطة المركزية هي الإصلاحات الإقتصادية وفي ​المالية العامة​ التي على ​الحكومة​ القيام بها، والتي من المفترض أن تأخذ مداها في الفترة الممتدّة ما بعد العام 2020، لناحية خفض المخاطر الماكرو-اقتصاديّة ووضع المديونيّة العامة بالنسبة إلى الناتج على مسار انخفاضي وتحسين وضع الماليّة العامة.

في هذا الإطار، معالجة مكامن الهدر في الماليّة العامة من شأنها أن تساهم وحدها في تحقيق الجزء الاكبر من التزامات الدولة في ​مؤتمر سيدر​، لجهة تخفيض العجز تدريجياً في المالية العامة الذي تدهور خلال العام 2018 بدل أن يأخذ منحى ايجابياً، وهو سيكون المدخل الأساسي لتحفيز المبادرات وتنفيذ الالتزامات، مع البدء بتحسين وضع الماليّة العامة من خلال زيادة الإيرادات وترشيد الإنفاق، والذي يجب أن يواكبه البدء بتنفيذ البرنامج الاستثماري لـ"سيدر" على البنى التحتية، وبالتالي رفع النفقات الاستثماريّة من مستوى متدنٍّ يقارب 1.3% من الناتج المحلّي الإجمالي إلى مستويات أعلى تقارب 3.5% من الناتج المذكور بما يتوافق مع متوسط ما هو سائد عالمياً.

وهذا من شأنه تحريك العجلة الاقتصاديّة وتحفيز النمو الاقتصادي وخلق فائض أوّلي مقبول في الموازنة العامة، يزداد تدريجياً خلال السنوات المقبلة ليصل الى 5% بأواخر العام 2022، والذي يستدعيه مستوى الدين الى الناتج الذي يتم الإنطلاق منه لتصحيح (فوق 150%) هذا الحجم الكبير من الفائض الأوّلي، ما يضع مستوى الدين العام إلى الناتج على مسار إنحداري.

أما بالنسبة إلى مكامن الهدر وإمكانيّة زيادة التحصيل الضّريبي، فهي على الشكل التالي:

1-الكهرباء: بحدود 1.7 مليار دولار (من الهدر الفني، والهدر غير الفني (سرقة وتعديات، وهدر في تحصيل الفواتير).

2-الضرائب والرسوم: ضريبة الدخل على الأرباح والأجور (يمكن تحقيق ما يزيد عن 1.1 مليار دولار في حال تمّت ملاحقة التهرّب من دفع ضريبة الدخل على أرباح الشركات والمؤسّسات الفرديّة وأصحاب المهن الحرة، ومن دفع ضريبة الدخل على الرواتب والأجور وفقاً للنسب المعمول بها حالياً).

3-الرسوم العقاريّة (يمكن تأمين حوالي 200 مليون دولار في حال اتّخاذ إجراءات مكافحة التهرّب من دفع الرسوم المستحقّة في هذا المضمار وتطبيق المساواة في الضرائب المتكرّرة ومكافحة التهرّب من الضرائب غير المتكرّرة، فضلاً عن رسم الانتقال).

4-الضرائب والرسوم على السلع بما فيها الرسوم الجمركية (يمكن إضافة حوالي 500 مليون دولار من إيرادات هذه الضرائب والرسوم من مجالات عدة، خصوصاً البضائع المستوردة لإعادة تصديرها في حين جزءاً منها يتم إدخاله وبيعه في السوق المحلي والتمكن من وقف الهدر في الرسوم الجمركية).

أما بالنسبة إلى قطاع الاتصالات، تطرح الكثير من علامات الإستفهام عن التراجع الحاصل في العائدات من وفر موازنة الاتصالات (من حوالي 1900 مليار ليرة في كل من العامين 2016 و2017 إلى 981 مليار ليرة في الأشهر التسعة الأولى من العام 2018) وإمكانيّة إعادة رفعها بالنظر إلى المستويات التي سادت في مرحلة سابقة، كما أنه يمكن تحصيل ما يقارب 200 مليون دولار في حال أعيد النظر في بعض الإعفاءات المعمول بها والتي تعتبر كهدر مقونن.

بناء على كل ما تقدم، يتبيّن ضرورة اتّخاذ إجراءات فوريّة لتخفيض الهدر في المدى المنظور، نظراً إلى أنّ تحصيل ربعه سنوياً وبشكل تدريجي على مدى 4 سنوات من شأنه أن يحوّل العجز الأوّلي إلى فائض أوّلي، وينتج عنه تالياً تقليص العجز في الحساب الجاري الخارجي، علماً أن الأخير يحتاج إلى معالجات إضافيّة من خلال اجراءات، قد يكون أهمها ضبط وترشيد الاستهلاك (البضائع المستوردة) من جهة، والعمل على إنماء العائدات السياحيّة الصافية ودعم الصناعة وتحفيز التصدير من جهة أخرى.