في المبدأ، أنجزت ​الحكومة​ رسمياً مهمّتها، مع إحالة مشروع ​الموازنة​ الذي ناقشته بالتفصيل المملّ، على مدى 20 جلسة تخلّلتها كما بات معروفاً، الكثير من السجالات والمناوشات، وحاول خلالها كلّ فريقٍ اقتناص دور "البطولة" بشكلٍ أو بآخر.

لكن، ولأنّ ما كلّ ما يشتهيه المرء يدركه، بدا أنّ النتيجة النهائية لم تعجب أحداً، حتى أنّ الموازنة باتت تبحث عن عرّاب يتبنّاها، فـ"التيار الوطني الحر" تنصّل منها، وأعلن عدم رضاه عنها، ومثله فعل "​حزب الله​" الذي تحفّظ على بعض بنودها، واعداً بكسر الصمت، وكذلك "​القوات اللبنانية​" التي كان وزراؤها أول المتحفّظين على المشروع.

وإذا كانت "المزايدات الشعبوية" المنتظرة في ​مجلس النواب​ وفي الشارع، والتي حذّر منها وزير الخارجية ​جبران باسيل​ بعد اجتماع تكتل "لبنان القوي"، تقف وراء هذا المشهد، فإنّ علامات استفهام تُطرَح عن مدى قدرة هذه "المزايدات" على "الإطاحة" بمشروع الموازنة، بعد كلّ ما تحقّق.

أقلّ من المتوقّع

كما في كلّ الاستحقاقات في لبنان، كان من الطبيعي أن يبحث الفرقاء عن "بطولات"، ولو "وهمية"، من خلال مشروع الموازنة، وهو ما استشفّه كثيرون منذ بدء جلسات مناقشة الموازنة في السراي الحكوميّ، بل هو ما يقف أصلاً خلف كلّ مسار المماطلة الذي حصل، انطلاقاً من السعي الحثيث لكلّ فريق لتسجيل النقاط على خصومه، والتشويش عليهم، ومنع إظهارهم بمظهر "الأبطال" بأيّ شكلٍ من الأشكال.

إلا أنّ هذا الأمر لم يستمرّ طويلاً، إذ انّ الانتقادات التي طالت الموازنة منذ ما قبل إحالتها من الحكومة إلى مجلس النواب، دفعت معظم مكوّنات الحكومة إلى "غسل اليد" من ثمرة عمل 20 جلسة بالتمام والكمال. وإذا كان وزراء "القوات اللبنانية" أول "المتحفّظين" من قلب السراي الحكومي، فإنّ "حزب الله" لم يتأخّر باللحاق بهم، مع إعلان أمينه العام ​السيد حسن نصر الله​ أنّ بعض بنود الموازنة مسّت بأصحاب الدخل المتوسط، وأنّ الحزب سيرفع الصوت في مجلس النواب، قبل أن يعلن الوزير باسيل، الذي وُصِف بـ"دينامو" الجلسات، أنّ تيّاره أيضاً غير راضٍ عن مشروع الموازنة، الذي لم يأتِ إصلاحياً بالمعنى الحرفيّ للكلمة.

وبمُعزَلٍ عن الدوافع التي تقف خلف انقلاب معدّي الموازنة على أنفسهم، يمكن القول إنّ تنصّل عرّابيها عن خلاصة عملهم، إن دلّ على شيء، فعلى أنّ الموازنة التقشفيّة لم ترتقِ إلى سقف التوقعات، بعد سلسلة الجلسات الماراثونيّة التي عقدت في السراي، بل إنّ الملاحظات عليها التي بدأ الخبراء بتسجيلها عليها كثيرة، خصوصاً لجهة عدم إمكان توصيفها بـ"الإصلاحية"، أو حتى بأنّها "غير مسبوقة" كما أصرّ رئيس الحكومة والوزراء على التكرار منذ ما قبل تأليف الحكومة.

ولعلّ التقرير الذي صدر سريعاً عن وكالة التصنيف العالمية "ستاندرد أند بورز" أتى ليعزّز هذه "الخيبة" في مكانٍ ما، بإشارته إلى أنّ الموازنة لن تكفي لاستعادة الثقة، بل إنّ التقديرات تشير إلى عجز مالي في العام الحالي عند حوالي عشرة في المئة، ما يخالف كلّ الأرقام التي تباهت بها الحكومة بوصفها "إنجازاً"، علماً أنّ الأمر يبقى في دائرة التكهّنات بانتظار ترجمته على أرض الواقع، خصوصاً أن موازنة العام الماضي مثلاً وعدت أيضاً بالكثير، من دون أن تكون النتيجة مطابقة بتاتاً.

استعراضات منتظرة

وفي حين وُجّهت الكثير من السهام للموازنة الوليدة باعتبارها غير إصلاحية كما كان يفترض ولو بدت تقشفيّة، وسط تشكيك البعض بمدى قدرتها على تطبيق شروط مؤتمر "سيدر" للنهوض ب​الاقتصاد اللبناني​، فضلاً عن كونها لم تترافق مع قطوع الحسابات للأعوام الماضية خلافاً للقانون، تبقى الثغرة الأساسية فيها بالنسبة إلى الشارع، والتي ستتحكّم بمسار الأمور في المرحلة المقبلة، تتمثّل في مسّها بأصحاب الدخل المتوسط وما دون، على رغم كل الوعود التي قُطِعت بخلاف ذلك.

وقد تجلّى هذا الأمر من خلال العديد من البنود الواردة في مشروع الموازنة، والتي بدأت سلسلة التحفّظات "الشعبويّة" عليها منذ ما قبل إحالتها إلى مجلس النواب، على غرار الضرّيبة التي تمّ فرضها على الاستيراد، إضافة إلى زيادة رسم الخروج على المسافرين لدى مغادرتهم الأراضي اللبنانية، والتي شملت الدرجة السياحية كما درجة رجال الأعمال والدرجة الأولى، من دون أن ننسى إلغاء جواز السفر لمدة عام وتحديد مدة صلاحيته إلزامياً بثلاثة أعوام، فضلاً عن مجموعة كبيرة من الإجراءات تندرج جميعها في خانة عصر النفقات وزيادة الإيرادات ليس إلا.

انطلاقاً من كلّ ذلك، يمكن القول إنّ رحلة الموازنة في مجلس النواب لن تكون سهلة وميسّرة خلافاً لما اعتقده كثيرون، في ضوء "الاستعراضات" التي بدأت منذ ما قبل بدء ​النقاش​ حتى داخل ​لجنة المال والموازنة​، علماً أنّ المعارضة لن تقتصر على الأقلية غير الممثلة في الحكومة، في ضوء الاستقطاب الحاد الذي سيحتّمه نقل الجلسات على الهواء مباشرةً، ما سيعيد إلى الواجهة مشهد جلسات مناقشة البيان الوزاري، حين تحوّل مانحو الثقة للحكومة إلى معارضين شرسين على المنبر، بحثاً عن مكاسب "شعبويّة" في مكانٍ ما.

ولعلّ ما سيزيد من حدّة هذا المشهد يتمثّل في التوقعات بأن تترافق جلسات مجلس النواب المخصّصة لنقاش الموازنة مع تحرّكاتٍ شعبيّة للعديد من الفئات المتضررة من المشروع بصيغته الحالية، يُتوقَّع أن تكون أوسع في الشكل والحجم من تلك التي رافقت الجلسات التي عقدت في السراي، والتي بقيت مضبوطة إلى حدّ كبير. من هنا، سيكون من الطبيعي أن يحاول النواب من جميع الكتل، تلقف الكرة، والظهور بمظهر من يساندون الطبقات الكادحة، ما سيفتح الباب أمام استعراضات وتمثيليات ستكون "الشعبويّة" سمتها العامة، لا تهمة تُوجَّه إلى بعض المعارضين الحقيقيّين، على قلّتهم.

ما كُتِب قد كُتب...

تحوّلات دراماتيكية شهدتها الموازنة في فترة قياسيّة، على وقع إحالتها من مجلس الوزراء إلى البرلمان. فبعدما كانت "إنجازاً" بنظر معظم الوزراء، ممّن تسابقوا على إسناد "الفضل" لأنفسهم في تحقيقه، تحوّلت سريعاً إلى "خيبة" برأي الوزراء أنفسهم، الذين شكا بعضهم عدم تطبيق رؤيتهم الإصلاحية فيها.

وإذا كانت هذه التحوّلات ستصل إلى مجلس النواب، حيث سيتسابق النواب على "الذمّ" بالموازنة، في محاولة لتحقيق المكاسب "الشعبوية"، خصوصاً إذا ما رُصِد غليانٌ شعبيّ مثلاً، فإنّ الأكيد أنّ ما كُتِب قد كُتِب، وأنّه سيمرّ في النهاية، وبعد انقضاء التمثيليّات، التي لن تفضي سوى إلى بعض التعديلات الطّفيفة في أحسن الأحوال، والتي لن تغيّر كثيراً من جوهر المشروع العام، مهما قيل ويُقال وسيُقال...