على عكس ما راهن عليه الكثيرون، فإن الحرب لم تحصل في ​فنزويلا​، ما اثبت مرّة جديدة وجهة النظر الروسيّة التي كانت طبّقتها في ​سوريا​ من ان القوة في بعض الاحيان تشكّل عائقاً امام اندلاع الحروب. ولكن، على عكس سوريا، لم تحتج ​روسيا​ الى التدخل عسكرياً في فنزويلا، بل تدخلت بقوّة دبلوماسياً وسياسياً، واستطاعت خلق توازن واضح مع ​الولايات المتحدة​ الاميركيّة، مانعة اياها من انجاز الانقلاب على الرئيس ​نيكولاس مادورو​. ولكن موسكو تعلم جيداً انها لا تستطيع ايضاً التفرد في القرار، من هنا كانت النية قائمة في فتح ابواب التفاوض لاقتسام النفوذ في هذا البلد، ومن الطبيعي بالتالي ان يبرز زعيم المعارضة ​خوان غوايدو​ كـ"خليفة" لمادورو انما وفق شروط معيّنة وبعد تسوية يتفق عليها الاميركيون والروس قبل الفنزويليين.

الانجاز الذي تحقق في هذا المجال، كان تخفيف حدة التوتر الامني والعسكري الذي ساد في فنزويلا، وافساح المجال امام التسوية السياسية، وهو ما انعكس ميدانياً من خلال تهدئة الساحة من جهة، والاعتراف المتبادل من قبل السلطة والمعارضة بقوة كل منهما، وعدم القدرة على تجاهلها اياً تكن الظروف.

وبعد ان كان سقف الكلام عالياً جداً بين الرجلين ومؤيديهما، اخذت الامور منحى مغايراً فخفّت حدته، وبدأت مرحلة جديدة من التعاطي. في الصورة السياسية، حافظ مادورو على صورته، ولم يخرج من السلطة بالقوة او بانقلاب يترك اثره عليه، حيث كان الخيار في حال خسارة المواجهة: اما الموت او العيش في بلد آخر حتى نهاية حياته. في المقابل، لم يكن امام غوايدو سوى الانتصار في المواجهة، لان الخسارة ستعني انهاء حياته السياسية بشكل تام، وربما حياته على هذه الارض ايضاً لو تفاعلت الامور اكثر فأكثر.

وفي الحالتين، لم يكن لصالح فنزويلا او شعبها حصول هذه المواجهات الدامية، لان الفائز فيها سيكون خاسراً بالتأكيد، وستأخذ الامور سنوات طويلة لاعادة ردم الهوة التي شكّلها الانقسام بين ابناء البلد الواحد، على غرار كل الحروب الاهليّة التي تعبث بها ايادٍ خارجية. كما ان الحكم سيكون مرتهناً لصالح الولايات المتحدة او روسيا، وكل بلد سيحاول التعويض عن خسارته عبر الاستمرار في محاولات زعزعة الاستقرار من النواحي السياسية والامنية والاقتصادية...

اليوم، تبدو الصورة اكثر توازناً، والقوتان الكبيرتان متواجدتان على الساحة، وهما انتقلتا بصورة غير مباشرة الى النروج حيث تجرى المفاوضات، وفي كل الاحوال، لن تكون السلطة مستقلة في فنزويلا بعد اليوم، فغوايدو مدين لواشنطن بوجوده على الساحة، فيما يدين مادورو لموسكو لبقائه في الساحة. السيناريو الابرز المتوقع، سيكون عقد جولات عديدة من المفاوضات قبل التوصّل الى تسوية قد تؤدي الى تعديلات دستورية مهمة، يتمّ بعدها تحديد موعد لاجراء الانتخابات بعد استعداد كل من الطرفين لاقناع الناخبين بأنه انتصر في المواجهة السياسية، انْ عبر البقاء في السلطة وعدم الرضوخ لقوة، او عبر اثبات وجوده وجعل المسؤولين الفنزويليين الاعتراف به وبقدرته على احداث تغييرات اساسية.

انه السيناريو السوري في فنزويلا، انما مع فارقين اساسيين: الاول هو غياب الحرب وما تحمله من مآس، والثاني هو ان المفاوضات التي انعقدت اكثر فاعليّة وسرعة من تلك التي عقدها الاطراف السوريّون، وليس من المستغرب ان تصل هذه اللقاءات الى نتيجة فيما التسوية السوريّة لا تزال بعيدة المنال وهي مرتبطة بتشعّبات كثيرة في المنطقة، يزيدها تعقيداً تدخل اكثر من دولة فيها وتأثيرها المباشر على العديد من دول المنطقة والقارّة الاوروبيّة بفعل التخوّف من موجات النزوح من جهة، وانتقال الارهابيين الى خارج سوريا من جهة ثانية.