أعاد الخلاف حول ملف المهجرين نكء الجراح وتحريك الحساسيات، ولكن هذه المرة ليس بين طرفي حرب الجبل، «الحزب التقدمي الاشتراكي» و»القوات اللبنانية»، بل بين الطرفين المسيحيين اللذين يمثلان شريحة واسعة من هؤلاء المهجرين، أي «القوات» و»التيار الوطني الحر».

بدلاً من أن يكون السعي الى إغلاق ملف المهجرين وختمه بالشمع الأحمر قاسماً مشتركاً يجمع «التيار» و»القوات»، إذا بهذه المسألة تنضمّ الى لائحة المواد الخلافية التي تفرّقهما، بل إنّ السجال في شأنها إمتد الى أعلى المستويات القيادية، مع دخول ​جبران باسيل​ و​سمير جعجع​ حلبة الردّ والردّ المضاد.

وإزاء تراكم الخلافات على جبهات عدة، وتجاوز الحملات المتكررة كل الضوابط المفترَضة، باتت مصالحة «التيار» و»القوات» مهدَّدة هي أيضاً بالتهجير، بعدما تراجعت مناعتها وفقدت كثيراً من محتواها السياسي، على رغم من تأكيد جعجع في مؤتمره الصحافي الاخير التمسّك بها، محاولاً تمييز العلاقة مع «التيار» ككل عن الاشتباك مع مسؤوليه المعنيين.

وحذّر جعجع من «انّ الاستمرار في الزكزكة يمكن أن يأخذنا الى مكان لا نريده ولكن سنذهب اليه إذا اضطررنا»، مشدداً على «أنّ «القوات» هي الوحيدة التي وقفت الى جانب أهالي الجبل بكل ما أوتيت من قوة فيما كان البقية ومن بينهم وزير المهجرين الحالي يتسلون في مكان آخر».

ولم يكتفِ جعجع بهذه الرسائل، بل خصص واحدة لباسيل من دون أن يسمّيه قائلاً له: «منيح ما سقطت بعبدا والمنطقة الشرقية بكاملها من بعد ما حافظت عليها «القوات» 15 عاماً».

في المقابل، لا يتردّد العونيون في فتح سجلّات جعجع، لافتين الى أنه خسر معاركه العسكرية في الجبل و​إقليم الخروب​ وشرق صيدا، وكذلك معاركه السياسية من «اتفاق الطائف» وما بعده الى انتخابات ​رئاسة الجمهورية​ و​قانون الانتخاب​ والتمثيل القوّاتي في الحكومات وغيرها من المحطات.

وهناك في الاوساط العونية مَن يعتقد أنه «كان من الأفضل لجعجع، بعد كل هذه المسيرة الحافلة بالإخفاقات، أن يمتلك شجاعة اعتزال العمل السياسي، بدلاً من الانتقال من هزيمة الى أخرى». ولئن كانت الاوساط تشدد على ضرورة أخذ الدروس من الماضي وليس نبش قبوره، تلفت الى «أنّ الأمانة التاريخية تستوجب إنصاف الجنرال ​ميشال عون​، بعدما اتّهمه ضمناً أحد المسؤولين القواتيين بأنه تخلى عن ​سوق الغرب​ في حرب الجبل وتركها تسقط».

وتفيد الرواية البرتقالية انّ عون الذي كان عقيداً آنذاك «إستُدعي الى اجتماع عاجل في ​قصر بعبدا​ في حضور رئيس الجمهورية ​امين الجميل​ وقائد الجيش ​ابراهيم طنوس​. وعندما طرح طنوس احتمال الانتقال من بعبدا الى ​بكفيا​ لأنّ ​بحمدون​ سقطت وقد تسقط سوق الغرب قريباً، ما يعني انّ القصر الجمهوري سيغدو مهدَّداً، انتفض عون وأكد انه سيصعد الى سوق الغرب الآن، وضرب بيده على الطاولة فوقع إبريق الشاي على الجميل، ثم توجه اليه قائلاً: عندما يصلك خبر أنّ الكولونيل عون استشهد وانّ اللواء الثامن هرب فيك تعمل شو ما بدك»..

وبينما لا تزال تداعيات الحرب ماثلة في الجبل، يستغرب الفريق العوني هجوم «القوات» على خطة «التيار» لمعالجة ملف المهجرين، والذي يشكل في رأيه «نسخةً طبق الأصل عن هجومها السابق على خطتنا لمعالجة أزمة الكهرباء»، مشيراً الى «انّ القاسم المشترك بين الحملتين هو انّ «القوات» لا تريد لنا أن نحقّق الإنجازات، سواء للمسيحيين او للبنانيين».

وتلفت الأوساط العونية الى انّ كل المصالحات بعد الحروب تعتمد المنهجية الآتية: الاعتراف، الاعتذار، التعويض، والمصالحة، «أما في ​مصالحة الجبل​ عام 2001 فتم تجهيل الفاعل ولم يحصل إعتذار متبادل وتم استخدام التعويضات لتحقيق مكاسب انتخابية وسياسية وليس لإنصاف اصحاب الحقوق، الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف الى مصالحة رخوة لم تشجع المسيحيين على عودة كاملة وثابتة الى الجبل».

وتشير الاوساط الى انّ «التيار» حاول أن يصوّبَ مسار العودة ويصحّح مكامن الخلل فيه، فكان قداس المغفرة والتوبة، ثم كانت الخطة المتكاملة لطيّ ملف التهجير كلياً وإقفال وزارة و​صندوق المهجرين​ بعد ثلاث سنوات، وفق روزنامة مدروسة، لافتة الى أنه تمّ خفض كلفة إنجاز الحلّ من 1350 مليار ليرة الى 600 مليار ليرة بعد سدّ مزاريب الهدر وحصر الإنفاق في الوجهة السليمة.

وتوضح الاوساط نفسها «انّ المسح الدقيق كشف، على سبيل المثال، انه ومن أصل 1000 طلب إخلاء يوجد 50 طلباً محقاً، ما يعني انّ نحو 95 في المئة من ملفات الإخلاء هي مزوَّرة، وتمّ تركيبها بطريقة احتيالية، عبر طلب مالك المنزل من شخص آخر أن «يحتل» منزله لتقديم ملف إخلاء، ثم يغادره لاحقاً بعدما يأخذ حصة من المبلغ الذي سيحصل عليه المالك من ​وزارة المهجرين​، بموجب التفاهم المسبق بين الرجلين».

وتؤكد هذه الأوساط «انّ الوزارة ستقفل أبوابها بعد ثلاث سنوات إذا انتظم التمويل المطلوب، بناءً على الاتفاق السياسي- المالي الذي حصل قبل ولادة الحكومة الحالية مع كل من الرئيسين ​نبيه بري​ و​سعد الحريري​ ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط».

وتروي الأوساط البرتقالية انه «عندما تبيّن أثناء مفاوضات ​تشكيل الحكومة​ انّ وزارة شؤون المهجرين ستؤول الى «التيار الوطني الحر» أبلغنا الى المعنيين أننا سنأخذها لنغلقها وليس لنستمرّ في النهج الذي كان سائداً من قبل، وعلى هذا الأساس قبلنا بالمهمة وتمّ التفاهمُ مع ​مصرف لبنان​ على أن يتولّى خلال ثلاث سنوات تأمين المبالغ الضرورية المقدَّرة بـ 400 مليون دولار لتمويل المراحل العالقة من العودة، ثم تسدّد ​الدولة اللبنانية​ تلك المبالغ خلال عشر سنوات، بلا فائدة، علماً انّ البعض كان يقدّر الحاجة الى نحو مليار دولار، إلّا انّ التدقيق خفّض الرقم الى حدود 500 مليون دولار، ليستقرّ على 400 مليون دولار، بعدما تبيّن انّ الملف كان منفوخاً لأسباب تتعلق بالمصالح لا بالحقوق».