دفعة واحدة، اشتعلت "الجبهات" على اختلافها خلال عطلة نهاية الأسبوع، لتهدّد التسوية السياسية الصامدة منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بفروعها المختلفة، سواء بين "​تيار المستقبل​" و"​التيار الوطني الحر​"، أو حتى بين "المستقبل" و"حزب الله"، حيث سُجّل خرقٌ هو الأول من نوعه منذ فترة طويلة.

وفيما استحوذ السجال بين "التياريْن" على الاهتمام الإعلامي، في ضوء السجالات العلنية التي دارت بين العديد من كبار القياديّين فيهما،فإنّ الانتقاد الذي وجّهه الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله إلى رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ على خلفية موقفه في قمم مكة، لم يمرّ أيضاً مرور الكرام، وبدا وكأنّه إيذانٌ بانتهاء الهدنة غير المُعلَنة بين الجانبيْن.

وإذا كان صحيحاً أنّها ليست المرّة الأولى التي تواجه فيها التسوية السياسية تهديداً جدياً كالذي تشهده اليوم، فإنّ اللافت للانتباه كان انتقال "تيار المستقبل" من ضفة الدفاع إلى الهجوم للمرّة الأولى، مع دخول كبار "صقوره" على خط السجالات القائمة، وسط علامات استفهام عن موقف الحريري، الموجود خارج البلاد، من كلّ ما حصل ويحصل...

التسوية على المحكّ؟!

مع أنّها ليست المرّة الأولى التي تواجه التسوية بين "المستقبل" و"الوطني الحر" مطبات وتحديات، انطلقت من داخلهما أصلاً قبل أن تمتدّ إلى الخارج، فإنّ حجم التراشق الإعلامي بين الجانبيْن، والذي وصل إلى ذروته خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية، رسم الكثير من علامات الاستفهام الجدية هذه المرّة عن مصيرها وإن أصرّ عرّابوها على أنّها صامدة على رغم كلّ العواصف.

ولعلّ ما ورد في مقدّمة نشرة أخبار "تلفزيون المستقبل" من توصيفٍ لرئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية ​جبران باسيل​ بأنّه بات يمثّل "عبئاً" على العهد يختصر الموقف، الذي اختار فيه "المستقبل" المبادرة بالهجوم، الذي توالى على محطاته العديد من "الصقور" فيه، من أمينه العام أحمد الحريري إلى وزيرة الداخلية ريا الحسن والنائب نهاد المشنوق وصولاً إلى الوزير السابق أشرف ريفي وآخرين، بدل الاكتفاء بردّ الهجمات التي تُشَنّ عليه، في خطوةٍ يقول "المستقبليّون" إنّ باسيل نفسه يتحمّل مسؤوليتها، خصوصاً بعد التصريحات التي نُسِبت إليه، حول المارونية السياسية والسنية السياسية، واتفاق الطائف بينهما، وهو سجالٌ كان يُعتقد أنّه أصبح من الماضي، وطويت صفحته.

ومع أنّ أوساط "الوطني الحر" أصرّت على أنّ التصريحات المشكو منها "مفبرَكة"، ولم تُنقَل بحرفيّتها بل تعرّضت لتحريف متعمَّد، شأنها شأن تصريحات أخرى حول أساتذة الجامعة اللبنانية والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، وهو ما تولى باسيل شخصياً توضيحه خلال جولته في الشياح الأحد، بقوله إن "الرئيس ميشال عون ليس ابن المارونية السياسية ليربينا عليها، ومخطئ من يعتقد أنّ البلد يمشي وفقاً لمارونية سياسية، سنّية سياسية أو شيعية سياسية"، إلا أنّ "المستقبل" يرى أنّ التوضيح جاء متأخّراً، وأنّه منقوصٌ أيضاً، خصوصاً أنّه ترافق مع تجدّد الحملة "غير البريئة" على عثمان.

ولعلّ مكمن الداء يتجسّد هنا بالتحديد، إذ إنّ "المستقبل" الذي تقول أوساطه إنّه تجاوز بشخص الحريري الكثير من "الشكليّات" في الآونة الأخيرة، تفادياً لتفاقم الإشكال، والتي كان آخرها ما حصل في جلسات مناقشة الموازنة، التي تصرّف خلالها الوزير باسيل وكأنّه رئيس الحكومة، أو المقرّر الفعليّ، بدأ يتحسّب لخطةٍ يسعى البعض إلى تنفيذها على خط التعيينات المرتقبة بعد عطلة عيد الفطر، خصوصاً أنّه لم يعد خافياً على أحد أنّ "التيار" يضع نصب عينيه فيها رأس اللواء عثمان، إضافة إلى رغبته بإجراء تغييرات شاملة تشمل إدارتي مصرف لبنان وشركة طيران الشرق الأوسط، لتعيين مقرّبين منه فيها.

أيّ نأيٍ بالنفس؟!

إذا كان السجال الحامي بين "المستقبل" و"الوطني الحر" حقّق شيئاً ما خلال اليومين الماضييْن، فهو برأي كثيرين أنّه غطى على خطاب السيد حسن نصر الله لمناسبة "يوم القدس"، لدرجة أنّ الكثير من قياديي "المستقبل" نفسه انهمكوا في الهجوم على الوزير باسيل، بدل الدفاع عن الحريري الذي طالته سهام نصر الله شخصياً، للمرّة الأولى بهذا الشكل الواضح منذ الهدنة بين الجانبيْن، والتي انعكست "مساكنة محمودة"، إن جاز التعبير، في حكومةٍ واحدة.

وفي حين يقلّل البعض من انتقاد نصر الله للحريري، باعتبار أنّه جاء "عرضياً" ليس إلا، مراعاةً لمصالح حلفائه الإيرانيين، بعد مصادقة لبنان الرسمي من خلال الحريري على بيان قمتي مكة المناهض لإيران جملةً وتفصيلاً، وتغليباً لمبدأ "النأي بالنفس" الذي يُتهَم الحزب عادةً بخرقه بما يعرّض مصالح لبنان مع الدول الشقيقة والصديقة، والتي يفترض أنّ إيران واحدة منها، إلى الخطر، فإنّ "المستقبل" يعتبر أنّ الهجوم لم يكن موفَّقاً في الشكل والمضمون، وبمثابة تقديم أوراق اعتماد جديدة إلى إيران، كان "حزب الله" بغنى عنها في مثل هذا التوقيت.

وإذا كان نصر الله حرص في خطابه على التمييز بين موقف الحريري كرئيس للحكومة، وكرئيس لتيار "المستقبل"، للقول إنّه كأمين عام حزبٍ لبنانيّ من حقّه أن يعبّر عن رأيه الشخصيّ بأيّ ملفٍ، فيما على رئيس الحكومة التزام موقف مجلس الوزراء مجتمعاً، فإنّ "المستقبل" يصرّ على أنّ الحريري لم يفعل سوى التعبير عن موقف لبنان الرسمي، كجزء لا يتجزّأ من جامعة الدول العربية، وبالتالي فإنّ التضامن مع السعودية والإمارات في وجه الاعتداءات التي تعرّضتا لها أخيراً، يندرج في هذه الخانة.

وبعيداً عن شعارات "العمق العربي" التي يرى "المستقبل" أنّ "حزب الله" لم يعد يؤمن بها ربما، لاعتبارات وحسابات يتفاوت تقديرها بين الجانبيْن، يسأل "المستقبليّون" عمّا إذا كان "الحزب" يريد تكرار السيناريو الذي طُبّق سابقاً، وأدّى إلى عزلة دبلوماسية لم يتعافَ منها لبنان فعلياً بعد. ولكنّهم أكثر من ذلك يسألون عن سبب "حصر" الهجوم بالحريري، علماً أنّ موقفه جاء بالتنسيق مع حليف الحزب، رئيس الجمهورية ميشال عون، وأنّ الأخير كلّف الحريري ترؤس الوفد اللبناني لهذه الغاية بالتحديد. وهم يذكّرون أيضاً بأنّ لبنان كان دائماً يبرّر تحفّظه على أيّ بيان بتصنيف "حزب الله" كتنظيم "إرهابي" ليس إلا، فيما هو مكوّن أصيل من المجتمع اللبناني، وهو ما كرّره الوزير باسيل عشرات المرّات بعد الأزمة الدبلوماسية التي حصلت سابقاً مع دول الخليج، ولعلّ العرب تعمّدوا تغييب العبارة هذه المرّة لهذا السبب بالذات.

ماذا بعد؟!

على رغم اشتعال الجبهات دفعة واحدة، لن يكون مستغرَباً أبداً أن يخرج من يقول، بعد جولاتٍ من التراشق العنيف تشمل جميع الأفرقاء، إنّ التسوية لا تقع وإن اهتزّت، عملاً بمبدأ "يا جبل ما يهزك ريح"، بل أن يتمّ تحميل "طابور خامس" متضرّر من حسن العلاقات بين الأفرقاء، مسؤولية توتير الأجواء عن سابق تصوّر وتصميم.

ولن يكون مستغرباً أيضاً أن يخرج من يقول إنّ من شاركوا في السجالات فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، وبعفويّةٍ خالصةٍ، ومن دون وجود قرار قياديّ بذلك، وإن كانت مثل هذه المقولة مُضحكة مبكية، إلا أنّ مقوّماتها تبدو جاهزة دوماً، ولعلّ صمت رئيس الحكومة يبقى الأكثر تعبيراً على هذا الصعيد...