ليس سراً أنّ عيد الفطر تحوّل في لبنان من مناسبة فرح إلى حزن وحداد، على خلفية العملية ​الإرهاب​ية التي شهدتها ​مدينة طرابلس​ ليلة العيد، وأدّت إلى استشهاد أربعة عسكريين من ​الجيش اللبناني​ و​قوى الأمن الداخلي​، على يد متشدّد قيل إنّه نفّذ عمليته من تلقاء ذاته، وفي إطار ما اصطلح على تسميته بـ"الذئاب المنفردة".

ولعلّ الخطير في الأمر أنّ هذه العملية إن دلّت على شيء، فعلى عودة الإرهاب إلى لبنان، بعدما نجح اللبنانيون في طرده من خلال عملية "فجر الجرود" على الحدود الشرقية مع ​سوريا​ في آب 2017، في خرقٍ هو أيضاً الأول من نوعه منذ تفجيرات القاع الإرهابية التي وقعت قبل زهاء ثلاثة أعوام.

إلا أنّ ما هو أخطر من كلّ ذلك يكمن في الجو السياسي الذي سبق ورافق وتلا العملية، على وقع السجالات التي لا طائل منها، ليس بين موالاة ومعارضة، بل بين "الرفاق" في الحكومة الواحدة، ممّن لم يتردّدوا في توظيف الإرهاب لصالح "الأجندة السياسية"، ولو تطلّب ذلك إدخال الأجهزة الأمنية في صلب الصراع...

لا داعي للهلع؟!

صحيحٌ أنّ عمليّة طرابلس الإرهابية جدّدت المخاوف الأمنية وأثارت الذعر لدى اللبنانيين، بعد ارتياح نسبيّ كبير لمسوه لمس اليد منذ ثلاثة أعوام، دفع الكثير من المسؤولين إلى اعتبار لبنان البلد الأكثر أماناً في المنطقة برمّتها، بعدما نجح في دحر الإرهاب والانتصار عليه، فيما كان الأخير يواصل الضرب في المحيطيْن القريب والبعيد، وصولاً إلى الدول الغربية، والأوروبية بالتحديد.

إلا أنّ ما هو صحيحٌ أيضاً، وحتى إشعارٍ آخر، أنّ ما حصل في طرابلس لا يمكن اعتباره "ضربة قاضية" إلى مثل هذه الرؤية الإيجابية والتفاؤلية، على خطورته، خصوصاً بعدما اتُفِق على وضعه في إطار عمليات "الذئاب المنفردة"، وهو نوعٌ مستجدٌ من الإرهاب لا يتطلب أكثر من فردٍ متأثّرٍ بأفكار التنظيمات المتطرفة، من دون أن يكون منتمياً بالضرورة إلى أيّ خليّة مُعلَنة وواضحة.

وسواء كان "الذئب المنفرد" في عملية طرابلس، وهو الإرهابي عبد الرحمن مبسوط، تصرّف بالكامل من تلقاء ذاته، أو بتنسيق مع أحد التنظيمات المتطرفة، مثل تنظيم "داعش" الذي كان ينتمي إليه، وسبق أن أوقف في لبنان بهذه التهمة بالتحديد، قبل أن يُطلق سراحه لينفذ عمليته، التي اعتبرها البعض "ثأرية وانتقامية"، فإنّ الأكيد أنّ ما حصل يفترض أن يقرع ناقوس الخطر، خصوصاً أنّ ضبط مثل هذه "الذئاب" قد لا يكون يسيراً، باعتبار أنّها تتصرّف بشكلٍ فرديّ، ما يعقّد مهمّة تعقّبها كما يحصل مع التجمّعات الإرهابية بصورة عامة.

وإذا كان صحيحاً أنّ السلطة السياسية بالغت أيضاً في التقليل من قيمة العملية لطمأنة المواطنين، خصوصاً مع ذهاب البعض إلى اعتبار منفذها "مختلاً عقلياً"، كما ألمحت وزيرة الداخلية ريا الحسن، فإنّ وجهة النظر المقابلة التي تحدّثت عن عودة "داعش" إلى لبنان وقعت في فخّ المبالغة أيضاً، باعتبار أنّ ما حصل بقي محدوداً إلى حدّ كبير، ما يعكس عجز التنظيم عن القيام بعمليات نوعيّة كالتي كان يقوم بها في السابق من تفجيرات وغير ذلك، علماً أنّ المعنيّين لم يُسقِطوا يوماً خطر الإرهاب من حساباتهم، بدليل بقاء الأجهزة الأمنية على تأهّبها، ونجاحها في ما عُرف بالأمن الاستباقي، عبر توقيف العديد من الخلايا النائمة التابعة للتنظيمات الإرهابية في أكثر من مكان على مدار الأشهر الماضية.

"الخطيئة الكبرى"

انطلاقاً ممّا سبق، وعلى رغم أنّ الوضع الأمني يبقى دقيقاً، إلا أنّ لا داعي للهلع، لأنّ ما حصل لا يعني عودة الإرهاب إلى لبنان بصورته القديمة، وإن بقي الخطر قائماً من عمليات مشابهة، بموجب استراتيجية "الذئاب المنفردة"، التي بات واضحاً أنّ ضبطها بشكلٍ كامل ليس سهل المنال.

إلا أنّ الهلع مطلوب في مكانٍ آخر، وتحديداً في السياسة، خصوصاً أنّ العملية التي جاءت على وقع الصراعات السياسية، التي أدخِل القضاء والأمن على خطّها عنوةً، لم تؤدّ إلى أيّ "فرملة" للسجالات، تحصيناً للساحة على الأقل، بل على العكس من ذلك، تحوّلت إلى مادة سجالية إضافية، أسهمت في تشنيج الساحة، أكثر ممّا هي متشنّجة أصلاً، فيما كانت دماء العسكريين الشهداء تسيل على الأرض.

وخير دليل على ذلك الحرب "الافتراضية" التي وقعت بين تكتل "لبنان القوي" ممثّلاً بوزير الدفاع ​الياس بو صعب​ من جهة، و"تيار المستقبل" من جهة ثانية، ممثلاً بالأمين العام للتيار ​أحمد الحريري​، معطوفاً على ما وُصِف بـ "المصدر الحكومي الرفيع"، الذي حمل صبغة رسميّة مع وروده في بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الحكومة ​سعد الحريري​.

ولعلّ أخطر ما في هذه الحرب التي انطلقت من تصريحٍ منسوب لوزير الدفاع حول عدم اتصال رئيس الحكومة به، أنّها انضمّت إلى حفلات الردود والردود المضادة بين الجانبيْن، وصولاً إلى إفراز بيانات حول "الأصول" وغيرها، تطلبت حبراً أكثر من بيانات إدانة العملية الإرهابية، وكيفية مواجهتها، علماً أنّ المقرّبين من بو صعب أوضحوا أنّ التصريح الذي جاء رداً على سؤال خلال مقابلة إذاعية، لم يُقصَد منه أيّ إساءة كما فسّره البعض.

وهنا، يبدو واضحاً أنّ الاستمرار في مثل هذه السجالات على وقع عملية إرهابية تحمل من الخطورة ما تحمل، يشكّل "الخطيئة الكبرى" التي وقع فيها السياسيون، والتي تكاد توازي خطورة العمل الإرهابي، أو على الأقلّ تكمّل مهمّته، في وقتٍ كان يفترض بهؤلاء أن يكون لديهم الوعي الكافي لوضع خلافاتهم جانباً، والتي يؤكدون للمفارقة أنّها آنيّة، وأنّ التسوية القائمة فيما بينهم صامدة على رغم كلّ شيء، والأهمّ أن يحيّدوا الأجهزة الأمنية عن صراعاتهم، بدل إغراقها في صراعٍ مُضاف إلى الصراع الذي تعيشه أصلاً، على وقع تسييسها، وتصنيفها وفقاً للمرجع الذي تتبع له.

أيّ وحدة؟!

قد يكون فاقعاً كيف أنّ القياديين في "​التيار الوطني الحر​" و"تيار المستقبل" كانوا يحرصون، بعد كلّ حفلة ردود نارية يتبادلونها، على التأكيد بأنّ ​التسوية الرئاسية​ غير مهدَّدة، وأنّها صامدة ولن يهزّها شيء، وكأنّ المطلوب تسجيل مواقف ليس إلا، ولو أدّى ذلك إلى إدخال البلاد في دوامة لا يعرف أحد كيفية الخروج منها.

لكن يبقى الأخطر في كلّ ما حصل هو توظيف هؤلاء لعملية طرابلس الإرهابية، وتحويلها إلى مادة سجالية، لتسجيل نقاطٍ من هنا أو هناك، خصوصاً أن التجربة اللبنانية دلّت على أنّ الانتصار على الإرهاب لم يتحقّق إلا من خلال وحدة اللبنانيين وتضامنهم، وحدة تبدو اليوم الغائب الأكبر، وإن اختزلها البعض بحكومة وحدة زائفة، لا تقدّم ولا تؤخّر!.