فجأة ثارت الخلافات السياسية الداخلية وباتت تهدّد التسوية الرئاسية، أي التفاهم بين التيارين "الوطني الحر" و"المستقبل". إتّخذَ الفريقُ الأزرق كلام وزير الخارجية والمغتربين ​جبران باسيل​ بشأن "السُنيّة السياسية" شعار التأزيم مع الفريق البرتقالي، لكن عناوين أخرى كان يطرحها "المستقبليون" في جلساتهم، وفي مقدمها: التعيينات. يريدون الاّ يمد باسيل يده على "حصتهم" التقليديّة. لكن وزير الخارجية يتصرّف على أساس أنه الفريق الحاكم. يسعى الأخير لتوسيع نفوذه إنطلاقاً من فشل خصومه في سحقه سياسياً. عدا عن انّه يستند الى احلاف داخلية متينة وسط ضياع إقليمي.

لم يستطع رئيس ​الحكومة​ ان يهضم تمدّد باسيل نحو مساحات اداريّة تحكّم بها "المستقبل" منذ سنوات طويلة، لكن الحريري يعرف أن التأزيم مع باسيل لا يخدم رئيس الحكومة شخصياً الذي وصل الى السراي الحكومي مجدّدا بفضل التسوية الرئاسيّة ايضاً. فإذا سقطت تلك التسوية، قد تنسحب نتائج الفشل على كل مندرجاتها، ومنها رئاسة الحكومة.

لكن مطّلعين يرون في تلك العناوين الخلافيّة الحجج الظاهرة لحقائق مخفيّة. هم يطرحون عامل الضغط الأميركي الهائل على ​لبنان​ عبر الاداة الإقتصاديّة في سياق العقوبات التي تطال "​حزب الله​". لأنّ الهدف هو منع وصول المساعدات التي سيمدّها مؤتمر "سيدر" الى لبنان. لذلك، تزايدت التصريحات الغربيّة بشأن عدم تلبية لبنان كل المتطلبات الدوليّة الإصلاحيّة للتهرّب من الإلتزام بدعم لبنان مالياً. وكأنّ العواصم الغربيّة تتنصّل من التزاماتها بحجّة انّ لبنان لم ينفّذ ما تعهّد به في مؤتمر "سيدر" من إصلاحات. من هنا يأتي -بحسب المراقبين- "السعي لتطيير الموازنة الماليّة التي يدرسها لبنان، عبر إستقالة الحكومة"، كخيار مطروح لكنه غير نهائي. عندها لن يستطيع اللبنانيون تقديم موازنة ماليّة تلبّي متطلبات الداعمين في "سيدر"، فيتوقف الدعم ويغرق لبنان في أزمة مفتوحة لا تُعرف مساراتها ولا تداعياتها السلبية ولا حدودها.

اذا كان هذا السيناريو مطروحاً بالفعل فهو أمر خطير. لا يمكن للمجتمع الدولي تحمّل نتائجه السلبيّة. لأنّ الإطاحة بالحكومة تعني انّ لبنان دخل مدار الإقليم، ومسار الأزمات الدوليّة المتعلّقة بالمنطقة، وخصوصاً على خط واشنطن-طهران. عندها قد لا يعود الحريري رئيساً للحكومة، رغم أنه يتصرف الآن كزعيم للسُنّة بالدرجة الأولى، للجزم بأحقيّة بقائه على رأس الحكومة، بعدما كان يستند فقط الى التسوية مع باسيل في الآونة الأخيرة، لضمان إستمراره في السراي الحكومي.

ومن سيئات عدم بت الموازنة نهائياً هي المشاكل الإقتصادية المتعاظمة في لبنان، وعدم وجود إيرادات مالية كافية، وتعثّر صرف "سيدر"، مما يعزز من احتمال طرح توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بشكل رسمي، كجزء من "صفقة القرن" التي تطيح بحق عودتهم الى أراضيهم، والتلويح بورقة المال كتعويض يحتاج اليه لبنان، رغم الرفض اللبناني المُعلن لهذا العنوان.

لا ينكر المطلعون وجود كل الإحتمالات، لكنهم يعتبرون انّ احداً في لبنان لن يغامر في إستقالة الحكومة، ولا تطيير الموازنة الماليّة، وليتحمّل المجتمع الدولي مسؤوليّة أيّة تداعيات تنتج عن تأخير بت امر صرف مقررات "سيدر"، لكن ماذا يمكن ان يحصل؟ تتعدد الإستنتاجات في ظل ضغوط أميركيّة كبيرة مارسها المبعوث الاميركي ​دايفيد ساترفيلد​ في موضوع ترسيم الحدود الجنوبيّة اللبنانيّة، فطرح ملف سلاح المقاومة على بساط البحث، فأتاه الردّ سريعا بالرفض. وكأنّ الاميركيين يستجمعون كل عوامل الضغط والترهيب بحق اللبنانيين، فيما الهدف واحد وهو تنفيذ لبنان ما عليه من "صفقة القرن" أيّ توطين الفلسطينيين اللاجئين. هذا ما يتيح عرض كل الإحتمالات في الآونة المقبلة بإستثناء الحرب العسكريّة التي تعرف واشنطن وتلّ ابيب انها لن تؤدّي اغراض "صفقة القرن"، ليبقى امامهم الحصار الإقتصادي هو العنصر القائم الآن، كما هي الحال مع ايران وروسيا والصين وغيرها. لكن اذا كانت تلك الدول قادرة على الصمود طويلا والرد، كما ظهر في مؤتمر سانت بطرسبورغ الذي جمع ١٤٠ دولة لتوقيع عقود تنفيذية بقيمة الف مليار دولار اساسها الصين وشركاؤها الدوليين، فهل يصمد لبنان؟ كيف؟ الأجوبة غير جاهزة الآن. فلننتظر.