خلال فترة أيّام قليلة تغيّب فيها رئيس ​الحكومة​ ​سعد الحريري​ عن البلاد، بعنوان قضاء إجازة عيد الفطر، اشتعلت كلّ الجبهات على خط "​تيار المستقبل​" دفعة واحدة، من دون أن يقدر أحد، وربما الحريري قبل غيره، على استيعاب الخلفيّات والأسباب.

من دون مقدّمات، انفجرت العلاقة مع "​التيار الوطني الحر​" بشخص رئيسه وزير الخارجية ​جبران باسيل​، بعد توتر مع "​حزب الله​" أحدثه خطاب أمينه العام ​السيد حسن نصر الله​، من دون أن تنجو العلاقة مع "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" من فخّ "المطبّات" بدورها.

وكأنّ كلّ ما سبق لا يكفي، فُتِحت الجبهة "الداخلية" على مصراعيها، ليبدو الحريري "مكشوفاً"، ليس فقط لجهة انعدام من يمكن تسميتهم بـ"الحلفاء"، ولكن حتى داخل تيّاره السياسيّ، وهو ما تفسّره الحملات التي يشنّها إعلام "المستقبل" على "المقرّبين".

لا "بدائل" فعليّة؟!

لا شكّ أنّ مشكلة الحريري الحقيقية، والتي قد يكون أدركها فعلياً وهو ما حتّم عليه نقل الاشتباك من مكان إلى آخر، تكمن في أنّ لا "بدائل" فعليّة يمكن أن يتّكئ عليها، في حال أقدم على "فضّ" تفاهمه مع "الوطني الحر"، سواء بقرار أحادي، أو بالتكافل والتضامن. لا يعود الأمر فقط إلى "الامتيازات" التي يمكن أن يخسرها في هذه الحال، والتي أمّنها تلاقيه مع "التيار"، ليصبح بذلك جزءاً لا يتجزّأ من "العهد القوي" بدل أن يبقى خارجه، بل يعود ببساطة إلى غياب "الحلفاء" الذين سبق أن جرّبهم، في أحلك الظروف.

قد يقول قائل إن "البديل" جاهز، ويتمثّل في إعادة إحياء تحالف "14 آذار" بصيغته الأولى، التي شكّلت المرحلة الأفضل لـ"الحريرية السياسية" بعد اغتيال عرّابها رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في العام 2005. إلا أنّ هذا الخيار لا يبدو واقعياً بالنسبة إلى الحريري، وإن حرص على الحفاظ على علاقات جيّدة، أو متماسكة إلى حدّ ما، مع مكوّنات هذا الفريق التي لا يزال يتلاقى معها في الخيارات السياسية، وتحديداً الاستراتيجية. ولعلّ تجدّد الاشتباك قبل أيام مع رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ خير دليل على "استحالة" العودة إلى تحالف قائم على "المزاجية" لا يكاد يتجاوز مطباً، حتى يصطدم بآخر، تنتفي معه كلّ مقوّمات "الهدنة" التي تسبقه.

ولا تبدو العلاقة مع "القوات اللبنانية" أفضل حالاً، وإن تحسّنت كثيراً في الآونة الأخيرة، بعدما تدهورت إلى خطوطها الدنيا في أعقاب استقالة الحريري الشهيرة من العاصمة السعودية ومن ثمّ تراجعه عنها في تشرين الثاني 2017. وإذا كان كثيرون يعتقدون أصلاً أنّ علاقة الحريري مع باسيل هي التي فجّرت علاقته مع رئيس حزب "القوات" في مكانٍ ما، فإنّ الحريري يشعر أنّ الأخير بات يتصرّف معه بمنطق "النكايات"، وهو ما لا يصحّ لبناء علاقة سويّة ومستقيمة طويلة الأمد، علماً أنّ ظروف التحالف اليوم مختلفة كثيراً عمّا كانت عليه في العام 2005، وفي مرحلة الأزمات المصيرية والوجودية التي كانت تهدّد الوطن بأسره، لا "الحريرية السياسية" بمفردها.

لا استقالة ولا من يحزنون...

عموماً، توحي المعطيات المتوافرة بأنّ الحريري بات، بشكلٍ أو بآخر، "مكشوفاً" إلى حدّ بعيد، داخل تيّاره وخارجه على حدّ سواء. وقد تكون "الخدوش" التي أصابت علاقته مع "التيار الوطني الحر"، وتحديداً مع الوزير باسيل، الأكثر وضوحاً على هذا الصعيد، وإن لم تكن الأولى من نوعها، خصوصاً أنّ "التفاهم" بين الجانبيْن، شكّل للحريري على مدى السنوات الثلاث الماضية "مساحة الأمان" التي كان ينشدها قبل ذلك، يوم وجد نفسه في وضعٍ لا يُحسَد عليه.

وإذا كانت "الحملات" التي تُشَنّ اليوم بشكلٍ مبالَغٍ به على التسوية الرئاسية، وتحديداً على التفاهم بين الحريري وباسيل، تنطلق من الإيحاء بأنّ هذه العلاقة هي التي أدّت إلى إضعاف "الحريرية السياسية"، وإظهار رئيس الحكومة بمظهر العاجز والخاضع، فإنّ ثمّة في "تيار المستقبل" من يقرأ "خبثاً" في مثل هذه المقاربة، خصوصاً أنّ القاصي والداني يعلم أنّ الحريري لم يقدم على خطوة التفاهم مع "التيار"، وصولاً إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، سوى لأنه كان يمرّ في مرحلة ضعف أراد الخروج منها، وهو أقرّ بذلك جهاراً وبوضوح في خطابه الشهير الذي تبنّى خلاله ترشيح عون إلى الرئاسة، وهو موثَّقٌ بالصوت والصورة.

ولعلّ الحملات التي بدأ إعلام "المستقبل" بشنّها قبل أيام، على "المقرّبين" ممّن يدّعون الدفاع عن الحريري، والتي شملت حتى الآن "صقوراً" كانوا يُعَدّون في مرحلة من المراحل من الأكثر التصاقاً برئيس الحكومة، على غرار وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، والإعلامي نديم قطيش، الذي طاولته "السهام" أخيراً، تندرج في هذه الخانة بالتحديد، خصوصاً أنّ الحريري يدرك أنّ "رفع السقف" كما يفعل هؤلاء، ليس لصالحه أبداً، علماً أنّ هناك من يعتقد أنّ ذهاب بعض هؤلاء إلى حدّ الحديث عن "نصف استقالة" للحريري، يعبّر عن "أمنيات" لدى "رفاق" الحريري في الصف الواحد، لا الخصوم المتمسّكين به حتى إشعارٍ آخر.

من هنا، فإنّ الاستقالة ليست خياراً مطروحاً بالنسبة إلى الحريري في هذا الوقت بأيّ شكلٍ من الأشكال، بل إنّ اتجاهه في الساعات القليلة المقبلة بعد عودته إلى بيروت، سينصبّ على "إنعاش" التسوية الرئاسية، ولكن وفق أسسٍ جديدة تحفظ له البعض من "ماء الوجه" بعد الأضرار التي تعرّض لها، وهو ما يتطلب خطوات "استيعابية" من جانب "التيار"، يمكن القول إنّها بدأت رسمياً، من خلال التصريحات التي بدأ بعض القياديّين فيه بتداولها بشكل مكثّف، والتي تؤكد التمسّك بالتسوية بالمُطلق، على أن تتوَّج بالمزيد من التفاهمات على كيفية إدارة المرحلة المقبلة، وتحديداً في ما يتعلق بملف التعيينات، حتى لا تشكّل "لغماً" جديداً، خصوصاً إذا ما تواصلت "الحملة" على بعض الشخصيات المقرّبة من الحريري في المؤسسات الرسمية، والتي شكّلت "أصل الداء" إن جاز التعبير.

موقفٌ لا يُحسَد عليه

بالنسبة إلى كثيرين، لا يزال نقل الاشتباك السياسي خلال الأيام الماضية من ضفة "المستقبل-الوطني الحر" إلى "الحريري والمقرّبين" غير مفهوم في أبعادٍ كثيرة منه. إلا أنّ الواقع أنّ رئيس الحكومة، الذي قد لا يكون راضياً عن مسار العلاقة مع "الوطني الحر"، بدأ يشتمّ رائحة "انقلاب" على خط "المقرّبين" منه، وصولاً إلى حدّ دفعه إلى "الانتحار السياسي"، إن جاز التعبير، لجني الثمرات.

ولعلّ الحريري يدرك أنّ مواجهة مثل هذا المخطط لا يمكن أن تتمّ من دون "تحصين" تفاهمه مع "الوطني الحر"، ولو بالحدّ الأدنى، علماً أنّه يعلم علم اليقين أنّ "التفريط" بهذه العلاقة ليس خياراً مطروحاً، باعتبار أنّ من محاذير ذلك تحوّل "حكومة العمل" التي لم تقترن أقوالها بالأفعال بعد، إلى حكومة "شلل" بكلّ ما للكلمة من معنى، ما ستكون كلفته باهظة على كلّ المستويات...