قد يكون تراءى للبعض خاصة من أولئك الذين يؤمنون ويتصرفون على أساس انّ إرادة اميركا وقرارها قدر لا يُردّ، ان يكون تراءى لهم انّ سعي اميركا لتصفية القرار الفلسطينية عبر ما اسمي «​صفقة القرن​» بات امراً نهائياً مؤكداً، وانّ مواجهته ستكون عقيمة فاشلة. وقد غاب عن هؤلاء انّ إرادة الشعوب إذا فعلت تبقى هي الأقوى، غاب عنهم انّ مساعي كثيرة لطمس جريمة اغتصاب فلسطين خلال الأعوام السبعين الماضية لم تنجح في تحقيق المُراد، وبقيت ​القضية الفلسطينية​ عند الأمتين العربية والإسلامية وأحرار العالم القضية المركزية الأولى التي يتمّ التمسك بها ويرفض تصفيتها مع سعي دائم الى إعادة الحقوق الى أصحابها، ولا يغيّر من هذه الحقيقة خيانة بعض الأنظمة الرسمية لهذه القضية وارتهانها للعدو الإسرائيلي وأميركا.

اليوم ومنذ ان صعد ترامب الى كرسي رئاسة ​الولايات المتحدة الأميركية​ ويتصاعد الحديث عن قضية فلسطين وتصفيتها الى ان عبّر عنه بعنوان «صفقة القرن» التي تختصر بإعطاء فلسطين كلها لـ «إسرائيل» واعتبارها وطناً قومياً لليهود، وتوطين الفلسطينيين المهجّرين من أرضهم حيث هم خارجها وبخاصة في سيناء والأردن ولبنان وإقامة نظام إقليمي ذي طبيعة مركبة سياسية أمنية اقتصادية بإدارة «إسرائيلية» وقيادة ورعاية أميركية، عملية تتمّ بتمويل عربي مع بعض الدعم الطفيف من أميركا وأوروبا واليابان.

وفي التنفيذ، تمّ اعتماد سياسة القضم المتدرّج والابتلاع لقمة لقمة، فكانت مواقف أميركا من مسألة القدس وإعلانها عاصمة للكيان الصهيوني ثم مسألة إسقاط صفة المحتلّ عن كلّ أرض تحتلها «إسرائيل» الآن، ثم اعتبار الجولان جزءا من «إسرائيل»، ثم التضييق على وكالة غوث اللاجئين لتصفيتها وإسقاط مصطلح لاجئ فلسطيني من التداول لإسقاط ​حق العودة​، ووصل قطار التنفيذ الآن الى بناء النظام الدولي لتمويل الصفقة، ولأجل هذا كانت الدعوة الى ما اسمي «ورشة البحرين»، من أجل «الازدهار والسلام» أيّ ازدهار «إسرائيل» وسلامها.

هذه المشهدية والتسلسل المتتابع للخطوات التنفيذية أقنعت البعض كما سبق القول، بانّ صفقة القرن في طريقها الواثق للنجاح الأكيد… فهل هذا الظنّ أو الاعتقاد في محله؟ وهل يمكن الركون الى هذه العناصر للقول بنجاح القرار الأميركي بتصفية القضية الفلسطينية، وتنفيذ الخطة المسماة صفقة القرن؟

انّ البحث في المقلب الآخر، وتجميع العناصر وتحليلها، يؤدّي الى نتيجة مغايرة للتسليم المتقدّم ذاك ويقودنا الى القول بأنّ أميركا تعمل للتصفية مع «إسرائيل» ومعها بعض أنظمة العرب الرسمية، لكن هناك كتلة كبرى مقاومة لهذه الصفقة تملك من القدرات والمكانة وتتمتع بمزايا من شأنها ان تعرقل التنفيذ أولاً وان تسقط الصفقة ثانية، وقد بدأت هذه الكتلة الممانعة المقاومة باتخاذ المواقف التي تنبئ بأنّ تهيئة بيئة إسقاط صفقة القرن قائمة على قدم وساق، لا بل انّ الاعتقاد بسقوط الصفقة بات أقوى بكثير من الظنّ بإمكان نجاحها، ويمكن ان يبرّر هذا الاعتقاد بفشل أميركا الأكيد في خطتها الإجرامية بما يلي:

1 ـ إجماع فلسطيني محكم وشامل على رفض التنازل عن الحقوق الوطنية في فلسطين بشتى وجوهها بما في ذلك حق العودة وحق تقرير المصير وحق إقامة ​الدولة الفلسطينية​ الكاملة السيادة والناجزة الاستقلال، هذا الرفض يعني بكلّ بساطة: الزواج لن يحصل إذا كان رفض من العريس او من العروس. فالفلسطينيون هم الطرف الأول والأساسي في الصفقة لأنهم هم أصلاً أصحاب الحقوق المنوي تصفيتها وشطبها.

2 ـ رفض دولي وإقليمي للصفقة مع تمسك بما نصّت عليه القرارات والمبادرات السابقة بحلّ الدولتين. اذ رغم كلّ ما يُقال عن سيطرة أميركية على قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها فإنّ هناك متغيّرات دولية جعلت مجلس الأمن يتفلت من هذه السيطرة نوعاً ما مع وجود فيتو صيني روسي فاعل بوجه أميركا، وقد رفضت كلّ من روسيا والصين الخروج على الشرعية الدولية في مسألة فلسطين، ما يعني عدم السير بصفقة القرن، والأمر ذاته ظهر في ​منظمة التعاون الإسلامي​ التي أكدت على هذه الشرعية ورفضت التنازل عن الحقوق الوطنية الفلسطينية ثم كانت أغلبية المواقف الدولية بما في ذلك الأوروبية التي تختصر بعبارة وجوب احترام الشرعية الدولة او قول الآخرين «لا نقبل بما يرفضه الفلسطينيون» عبارة كافية للقول بانّ هناك عقبة دولية كبرى أمام الصفقة.

3 ـ الوهن والضعف المستشري في بنية أطراف الصفقة: من المعروف انّ الصفقة أرسيت على قوائم ثلاث ترامب ونتنياهو ومحمد بن سلمان، وهؤلاء الثلاثة يعانون اليوم من حالة وهن تستشري في أوضاعهم وتمنعهم من التحرك الآمن لتنفيذ مشاريع استراتيجية كبرى بحجم صفقة القرن، حيث نجد ترامب في وضع مهتزّ داخل أميركا مع شحذ وشهر سيف العزل بوجهه إضافة الى انه أصلاً يستعدّ للدخول في السنة الأخيرة لولايته وهي سنة الانتخابات، ونتنياهو تعثر في تشكيل الحكومة ما اضطره للذهاب الى انتخابات مبكرة غير مضمونة النتائج، والأخير ابن سلمان يغرق في وحول ​اليمن​ ويخسر المواقع في العسكرية في ​جيزان​ وتتعرّض مرافقه النفطية لتهديدات جدية تجعله في وضع يتنافى مع مستلزمات إطلاق صفقة استراتيجية كبرى.

4 ـ عجز معسكر العدوان على سورية من احتواء الخسارة فيها وتحييد سورية عن الهمّ الإقليمي العربي الأساسي. حيث انّ سورية استطاعت بعد عظيم الإنجازات التي تحققت في معركة الدفاع عن نفسها، استطاعت مؤخراً ان تفشل حرب الاستنزاف التي جرت إليها، وان تنطلق وبثبات واضح في معركة تحرير إدلب، المعركة التي تجهض استراتيجية أميركا إطالة امد الصراع وتسرع في استعادة سورية دورها الاستراتيجي العربي والإقليمي في المحافظة على حقوق الأمة عامة والفلسطينيين خاصة، وقد أثبتت التجارب السابقة ان لا حلّ ولا سلام ولا هدوء في المنطقة انْ لم يقترن بتوقيع سوري، وسورية ترفض صفقة القرن علانية ووضوحاً.

5 ـ اشتداد التماسك في محور المقاومة وتنامي قدراته المختلفة بما في ذلك العسكرية والسياسية، وعلى هذا الصعيد يسجل أمران… الأول بنيوي وفيه عودة بعض ​الفصائل الفلسطينية​ التي اختارت الطريق الخطأ خارج المحور، والثاني التوسع الجغرافي والعسكري لمحور المقاومة وقدرته على ممارسة الحرب الشاملة الواسعة التي يعجز العدو عن إنهائها، والمعروف المؤكد عليه انّ محور المقاومة وفي ظلّ إجماع فلسطيني على رفض الصفقة سيكون في خدمة هذا الإجماع لمنع تمرير الصفقة.

ـ إحجام مصري أردني عن منح التسهيلات التنفيذية التي تتطلبها الصفقة ومن المعروف انّ على الدولتين أعباء يشترط القيام بها لإنجاز الصفقة، فعلى مصر ان تعطي أرضاً في سيناء وعلى الأردن ان يفتح باب ​التوطين​ لمليوني فلسطيني وان يراجع نظامه السياسي ليصبح الأردن بمثابة الوطن البديل. وكلا الأمرين مرفوضان من قبل أصحاب العلاقة كما يبدو.

لكلّ ما تقدّم نكاد نقول انّ المشهد بات محبطاً لأميركا واتباعها، ولا يشجع على القول بانّ نجاح الصفقة أمر مضمون، لا بل العكس تماماً نقول انّ المشهد يكاد يقطع بفشل الصفقة، قول يعززه أيضاً ان وقت صاحب المشروع وأطرافه قد ضاق كثيراً، فترامب يستعدّ في الخريف المقبل لإطلاق سنة الانتخابات الرئاسية مع ما يستلزم انشغاله بها ونتنياهو مضطر لخوض انتخابات مبكرة في أيلول أيضاً ما سيحرمه من بذل الجهد والقدرة على القرار للعمل من أجل الصفقة المترنّحة ولهذا نرى انه من المجدي النظر الى المستقبل وفيه فشل الصفقة المرتقب، وتوقع بعض التداعيات لفشلها خاصة في:

أ ـ الأردن: الذي سيضطر الى إعادة النظر في الكثير من المواقف والسياسيات الخارجية والداخلية وان يكون أقلّ تبعية ل​دول الخليج​ التي دعمت الصفقة على حساب الكيان الأردني ومصالحه.

ب ـ لبنان الذي سيؤدّي به فشل الصفقة الى إعادة النظر بخطة التجويع للتركيع ثم المقايضة مع التوطين وقد تكون خطة سيدر وموازنة التقشف المبحوث المطروحتين من ضحايا فشل صفقة القرن.

ج ـ سورية التي سيرتدّ فيها فشل الصفقة على خطة أميركا الرامية الى إطالة الحرب والتمهيد للتقسيم وإذا عطف الأمر على العناوين الأخرى المتقدّمة الذكر أمكن القول بانّ تسارع عمليات إنهاء الازمة السورية سيكون منطقياً.

د ـ فلسطين وهي الأساس، وانّ اهمّ ما سيسجل فها تبريد في العلاقات الداخلية بين الأطراف الفلسطينية مع تعثر ضمّ الضفة وسقوط خطة تهجير فلسطيني 48، ومراجعة لبعض سياسات السلطة تجاه «إسرائيل».