كما كان متوقّعاً، بعيداً عن الأمنيات التي عبّر عنها البعض، بدا رئيس ​الحكومة​ ​سعد الحريري​ شديد الحرص على التسوية الرئاسيّة التي جمعته مع "​التيار الوطني الحر​"، في إطلالته الإعلاميّة الأولى منذ اهتزازها، الذي كاد يؤدي إلى سقوطها وانهيارها بالكامل.

صحيحٌ أنّ إطلالته لم تخلُ من الشجاعة والجرأة في تسمية بعض الأمور بمسمياتها، لعلّ أبرزها إقراره للمرة الأولى بوجود "غضب سنّي" داخل بيئته الحاضنة، من بعض الممارسات والسلوكيّات، فضلاً عن حديثه عن "تدخل سياسي" في القضاء، بصريح العبارة، في إشارة إلى قضية تركيب ملفّ "العمالة" للممثّل المسرحيّ ​زياد عيتاني​.

وإذا كان كثيرون قرأوا خلف هذه الجرأة غمزاً من قناة شركائه في التسوية، وتحديداً وزير الخارجية ​جبران باسيل​، فإنّ الحريري لم يتردّد في إعطاء "أسباب تخفيفية" للأخير، وكأنّه أراد أن يقول إنّ الكرة باتت في ملعبه، بعدما بادر هو لترميم التسوية، التي قال صراحةً إنّ البديل عنها، الذي يدفع نحوه الكثيرون من الأصدقاء قبل الخصوم، لن يكون سوى "المجهول"...

"امتصاص الغضب"

كان متوقّعاً أن تكون الخطوة العمليّة الأولى التي يقدم عليها الحريري بعد عودته إلى بيروت، عقب إجازة أرادها للراحة فتحوّلت إلى "خراب" بكلّ ما للكلمة من معنى، زيارة يقوم بها إلى القصر الجمهوري في بعبدا، يبحث خلالها مع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ملابسات كلّ ما حصل. إلا أنّ المفاجأة كانت بالإعلان عن مؤتمر صحافي سيعقده الرجل قبل أيّ شيء آخر، ما فتح الباب أمام الكثير من التكهّنات والتأويلات، التي ذهب بها البعض إلى حدّ توقّع إمكان إقدامه على الاستقالة، احتجاجاً على الدرك الذي وصلت إليه الأمور خلال فترة غيابه.

ولأنّ مثل هذه الاستقالة غير واردة، بالشكل والمضمون، خصوصاً أنّ رئيس الحكومة سيكون شخصياً المتضرّر الأساسيّ منها، إن لم يكن الوحيد، ولو كان الكثيرون من "رفاقه المفترضين" يدفعونه إليها لغاياتٍ باتت مكشوفة ومفضوحة، أقلّه بالنسبة إليه، فإنّه يمكن إدراج المؤتمر الصحافي الذي عقده و"بقّ البحصة" فيه بعد صيامٍ طويلٍ عن الكلام، بسهولة في خانة امتصاص النقمة، أو ربما "الغضب السنّي" الذي اعترف بوجوده للمرّة الأولى لهذا السبب بالتحديد، ولقطع الطريق على كلّ "المزايدات" التي تستهدفه بالدرجة الأولى.

ولعلّ الرسائل التي وجّهها الحريري في هذا الإطار أتت واضحة ولا لبس فيها، خصوصاً تلك التي تضمّنت انتقاداتٍ صريحة للوزير باسيل، مع تسميته أو من دونها، سواء عندما تمنّى لو أنّ تكذيبه للكلام الذي نُسِب إليه في البقاع حول "السنية السياسية" لم يتأخر 24 ساعة، أو عندما ألمح، رداً على أسئلة الصحافيين، إلى تدخّل فريقه السياسيّ في الأحكام القضائيّة. ولا يشذّ ردّه على الأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​ في ما يتعلق بموقفه في قمم مكّة الأخيرة عن غاية "امتصاص الغضب" أيضاً، خصوصاً أنّ التجربة دلّت على أنّ المواجهة مع "الحزب" قد تكون أكثر ما يخدمه في مراحل "الأزمات"، أقله من الناحية "الشعبوية"، تماماً كما أنّ العكس صحيح، وهو ما يدركه الجانبان ويتفهّمانه.

تفاهم مشروط؟!

لكن، وفي مقابل هذه الرسائل "الساخنة" التي حرص الحريري على توجيهها، بعدما أدرك أنّ الصيام عن الكلام لم يعد مفيداً، ولا الاكتفاء ببيانات رؤساء الحكومات السابقين ودار الإفتاء، وإن كانت تؤمّن له "الغطاء الشعبي" المطلوب خصوصاً على المستوى الطائفي، كان واضحاً تمسّك الحريري المُطلَق بالتسوية، وإن بشروطٍ مختلفة، علماً أنّه مرّر رسائل واضحة في هذا الاتجاه للحلفاء والخصوم على حدّ سواء، خصوصاً لجهة قوله إنّه يكره المزايدات والمناكفات، ولكنّه يجيدها إن دخل على خطّها.

وفي حين كان البعض يتوقع أن يسبق لقاء الحريري مع رئيس الجمهورية ميشال عون أيّ كلام آخر، ثمّة من يعتبر أنّ الرجل حرص على عقد مؤتمر صحافي يرفع فيه سقف شروطه قبل عقد أيّ لقاء، استباقاً لأيّ اتهاماتٍ له بتقديم تنازلاتٍ جديدةٍ، كرمى لعيون عون أو غيره، وبالتالي يبدو كأنّه هو من الذي بادر بالدفع إلى ترميم التسوية وتحصينها، انطلاقاً من أن لا بدائل أخرى متوافرة في الوقت الراهن سوى "المجهول"، ولكن من دون أن يعني ذلك أنّه سيستمرّ في سياسة الصمت، وهو ما قاله جهاراً عندما وعد بأنّه لن يسكت بعد اليوم، وهو ما فُسّر على أنّه فرضٌ لشروطٍ جديدةٍ للاستمرار بالتسوية.

إلا أنّ ما قرئ خلف سطور كلام الحريري المكتوب، وفي ذلك أصلاً إشارة واضحة إلى أنّه جاء مدروساً بعناية فائقة، أنّه لم يأتِ معزولاً عمّا سواه، بل إنّ هناك اعتقاداً بأنّه أتى على الأرجح في إطار "تفاهم مسبق" مع "التيار الوطني الحر" على أن ترميم التسوية بدأ تنفيذه عملياً من طرفيها، منذ نهاية الأسبوع الماضي، وقد يكون رئيس الجمهورية بذل جهداً شخصياً على خطه، لاحتواء التصعيد الذي حصل، والذي استغلّه الكثيرون من المصطادين في الماء العكر، وهو ما أصبح معروفاً للقاصي والداني.

وانطلاقاً من ذلك، فإنّه مقابل إيحاء الحريري بأنّه قال كلمته ومشى، فارضاً بشكلٍ أو بآخر رؤيته، ومنتظراً أن يتلقف "التيار" الكرة منه، فإنّ الأخير يعتبر أنّه فعل ما عليه منذ ما قبل مؤتمر الحريري، وبالتكافل والتضامن معه، ولعلّ الزيارة التي قام بها الوزير سليم جريصاتي موفداً من رئاسة الجمهورية إلى دار الفتوى، والكلام الواضح الذي أطلقه عن "حكم الأقوياء"، وعن رئيس الحكومة بالتحديد، دليلٌ واضحٌ على ذلك، معطوفاً على الصمت المعبّر للوزير جبران باسيل خلال اليومين الماضيين، على رغم استمرار "الحملات" عليه، من داخل البيت "المستقبلي" وخارجه، فضلاً عن مسارعته مثلاً لتوضيح موقفه المتعلق بالعمالة اللبنانية، بعد ما اعتبره "تحريفاً متعمّداً" له، بما أساء خصوصاً للعلاقة مع ​المملكة العربية السعودية​.

إلى العمل...

لعلّ الرسالة الأساسية التي أراد أن يقولها رئيس الحكومة في مؤتمره الصحافي هي أن ما حصل قد حصل، والمطلوب الآن طيّ الصفحة والمضيّ إلى الأمام، في ضوء الاستحقاقات الكثيرة التي تنتظر الحكومة، اقتصادياً ومالياً وسياسياً.

كان واضحاً أنّ الحريري حرص على أن لا "يطوي الصفحة" سوى بعد توضيح الملابسات، ورفع الأسقف، لامتصاص النقمة، وقبل ذلك قطع الطريق على المزايدين، وما أكثرهم خصوصاً على ضفة "المقرّبين" من رئيس الحكومة قبل الأبعدين.

أما الآن، فإنّ زمن المناكفات يجب أن ينتهي، لأنه لن يؤدي إلى مكان، في وقتٍ لا يزال المُنتظَر من الحكومة كبيراً، لبنانياً وعربياً ودولياً، وأنّها عليها أن تسابق الوقت لتحقيقه، بدل أن تلتهي بسجالاتٍ أقرب إلى "المسرحيات" منها إلى أيّ شيءٍ آخر!.