كان من الطبيعي أن يحطّ رئيس "​التيار الوطني الحر​" وزير الخارجية والمغتربين ​جبران باسيل​ في بشري، وإن كانت عقر دار "​القوات اللبنانية​"، أولاً لأنّها منطقة لبنانية شأنها شأن المناطق الأخرى التي يقوم بزيارتها في إطار جولاته المناطقية الأسبوعية المكوكية، وثانياً لكونها جزءاً من الدائرة الكبرى التي انتُخِب ممثّلاً عنها في ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة.

لكنّ غير الطبيعيّ تمثّل في "الطنّة والرنّة" التي أحدثتها زيارة باسيل في عطلة نهاية الأسبوع إلى القضاء، والتي لم تكن الأولى من نوعها أصلاً، والتي انعكست بيانات متتالية لنائبي بشري تناولت حصراً لافتات الترحيب بالوزير باسيل، ومدى "قانونيّتها"، في مفارقةٍ وضعها كثيرون في إطار "الشكليّات والقشور" ليس إلا.

وإذا كان "التيار" حرص على عدم الردّ مباشرةً على "القواتيين" في ما يتعلق باللافتات، فإنّ الأمر أوحى لكثيرين بوجود امتعاض "قواتي" من الزيارة، يتخطى بطبيعة الحال منطق اليافطات، ليصل إلى العلاقة المترديّة مع "الوطني الحر"، ومع شخص باسيل تحديداً...

تجاوز للأصول؟!

استنفرت "القوات اللبنانية" تزامناً مع زيارة الوزير جبران باسيل إلى قضاء بشري. وجد نائباها ​ستريدا جعجع​ و​جوزيف اسحق​ في يافطات الترحيب بالأخير، ما يشبه "الاعتداء"، إن جاز التعبير، وصولاً إلى حدّ دعوة أهالي بشري إلى "التحلي بالشجاعة والحكمة والرجولة"، وبالتالي "عدم القيام بردود فعل" على تصرفات باسيل، التي وصفاها بـ"غير القانونية".

برأي كثيرين، فإنّ مثل هذا الخطاب مُستغرَبٌ من الأصل، حتى لو كانت الحُجّة التي يستند إليها قانونيّة وسليمة مئة بالمئة، إذ هل يجوز تصوير زيارة وزيرٍ لبنانيّ إلى منطقة لبنانيّة وكأنّها إعلان حربٍ مثلاً، فقط لأنّ يافطات رُفِعت من دون إذن، لو فرضنا ذلك؟! وإذا كان الأمر ينمّ فعلاً عن "تجاوزٍ للأصول" كما روّج "القواتيون"، هل كان الأمر يستأهل كلّ هذه الضجّة "المفتعلة" التي دفعت "قواتيين" إلى الإقرار بأنّهم لم يعرفوا بالزيارة، إلا من خلال بيانات "القوات"؟!.

وأبعد من ذلك، ثمّة من يسأل "القوات" عمّا إذا كانت باستنفارها المبالَغ به، تكرّس مبدأ "الفيتو" في بشري، أو بمعنى آخر، تجعلها أقرب إلى "المربع الأمني" الذي تتّهم "حزب الله" بإقامته في الضاحية الجنوبية لبيروت، ولا توفّر فرصة من دون أن تشكو منه ومن تبعاته، خصوصاً أنّها بامتعاضها من زيارة باسيل تتصرّف كما لو أنّها صاحبة الكلمة الفصل في القضاء، ولا يحق لأحد أن يحطّ فيه من دون المرور من خلال بوّابتها، وبالتالي الحصول على رضاها.

مع ذلك، فإنّ لـ"القوات" وجهة نظر أخرى من "الشكليات"، هي التي سبق أن استقبلت خصوماً من دون مشاكل تُذكَر، لعلّ أبرزهم وزير الصحة المحسوب على "حزب الله" جميل جبق الذي جال في مستشفياتها في أيار الماضي، ويقول مقرّبون منها في هذا السياق، إنّ باسيل هو الذي تجاوز الأصول وأخطأ، إذ كان بإمكانه لقاء نائبي بشري، ولو من باب رفع العتب، احتراماً لإرادة ناخبي القضاء، علماً أنّ هناك تفاهماً ثنائياً بين الجانبين، وإن كان باسيل لا يعترف به من الأصل.

إلى بشري دُر...

عموماً، لا يتردّد كثيرون في القول إنّ "تجاوز الأصول" لم يكن أكثر من "ذريعة" للانقضاض على زيارة باسيل إلى بشري، خصوصاً أنّ القاصي والداني يدرك أنّ "القوات" ما كانت لتستنفر اعتراضاً على يافطات مرحّبة بأيّ ضيف آخر، وما كان نائباها ليتصدّيا شخصياً للأمر، ويتحرّيا عمّا إذا كان قد أخذ "إذناً" لتعليق اليافطات أو سواها.

من هنا، فإنّ للأمر بلا شكّ حسابات أخرى، في السياسة بطبيعة الحال، بعيداً عمّا صُنّف في إطار "الشكليات والقشور"، حسابات مرتبطة بالعلاقة الآخذة بالتفاقم بين "القوات" و"التيار"، أو تحديداً بين "القوات" وباسيل، كما يفضّل "القواتيون" القول باعتبار أنّ الخلافات محدودة بشخص وزير الخارجية، والتي أتى ملفّ التعيينات مثلاً ليزيدها توتراً، على خلفية ما يُحكى عن نيّة باسيل إقصاء "القوات" عنها، والاستئثار بها، بموجب اتفاقٍ ثنائيّ مع رئيس الحكومة ​سعد الحريري​.

لكن، أبعد من ذلك، ثمّة من يقول إنّ "القوات" استشعرت نيّةً لدى الوزير باسيل، بـ"التمدّد" إلى بشرّي، أسوة بباقي المناطق اللبنانية، في إطار خوضه معركة الانتخابات الرئاسية مبكراً، مع أنّه اعترف خلال الزيارة المشكو منها، بأنّ الغالبية في القضاء ليست مع خطّه السياسيّ، وهو ما سبق أن كرّسته الانتخابات النيابية الأخيرة. إلا أنّ جدول الزيارة كان كفيلاً بـ"استفزاز" قيادة "القوات"، خصوصاً لجهة اللقاء مع أحد خصومها التقليديين، المرشح السابق للانتخابات النيابيّة ويليام طوق، وابن عم النائب ستريدا جعجع.

وقد يكون ما قاله باسيل في حضرة طوق أكبر دليل على ذلك، هو الذي وعد بـ "استكمال مسيرة الانفتاح المبنية على التعاون وليس الحقد"، مشيراً إلى أنّ"بشري مثل كل لبنان، مبنية على التنوع، ولا يمكن لأحد أن يقصي أحداً... وهذه الانتخابات الأخيرة كانت شاهداً على ذلك، وهكذا يجب أن يكون المستقبل". وفي هذه العبارات التي بدت أشبه بإعلان تحالفٍ سياسيّ جديد، قرأت "القوات" استفزازاً "باسيلياً" واضحاً، وإن كانت تقول في مجالسها إنها لا تعيره أهمية، خصوصاً بعدما كرّست الانتخابات النيابية الأخيرة انتصارها المُطلَق في القضاء، شاء من شاء وأبى من أبى، وعلى رغم كلّ محاولات الخرق التي لم تنجح.

سقوط "المصالحة"

لا شكّ أنّ لكلّ من "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" وجهة نظرهما ممّا حصل في بشري. "التيار" يقول إنّ رئيسه زار منطقة لبنانية ضمن سلسلة زياراتٍ يقوم بها دورياً إلى مختلف المناطق، وهو ما يجب أن يُحسَب له لا عليه، علماً أنّه سبق أن زار مناطق أخرى محسوبة على جهاتٍ سياسية خصمة له، من دون أن ينفعل أحد بهذه الصورة، كما حصل مثلاً خلال زيارته زغرتا قبل فترة.

في المقابل، تقول "القوات" إنّ الزيارة لا يمكن أن تكون "بريئة" كما يحاول باسيل تصويرها، موحياً بأنّها معزولة عن كلّ ما عداها من خلافات وحساباتٍ، وتعتبر أنّ الأصول كانت تقتضي احترام الممثلين الشرعيين للقضاء، كما كان باسيل ليفعل عند زيارة أيّ منطقة أخرى، إذ لا يمكن تصوّره مثلاً في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت من دون المرور عبر "حزب الله" ومن خلاله.

وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ المشهد برمّته في بشري لم يكن عفوياً، ولا مشرّفاً، أياً كانت الحُجَج والذرائع، خصوصاً بين فريقيْن يزعمان أنّهما رميا الماضي وراء ظهرهما من خلال مصالحتهما الشهيرة، مصالحة بات عليهما الإقرار بأنّها لم تكن حقيقيّة، وأنّها سقطت عند أول امتحان...