الجميع متفقون اليوم على أنّ الوضع الاقتصادي سيئ جداً، وأنّ هناك أزمة حقيقية يجب التعامل معها، وهناك إجراءات جذرية يجب اتخاذها للخروج من الوضع المتردّي. هذه الإجراءات والحلول بعضها موقت، أي آني، ويجب ان يكون سريعاً، وبعضها الآخر مستدام، أي خطط للمستقبل وتحتاج سنوات للتطبيق والتنفيذ ورؤية النتائج.

لقد طُرِحت في الآونة الاخيرة حلول وإجراءات عدة، منها ما جاء على لسان النائب اللواء جميل السيد، الذي صوّر بوضوح بعض مزاريب الهدر والموارد الضائعة، إن كان في الأملاك البحرية أو في الخلوي.

إنّ الاصلاحات الجذرية المطلوبة لوضع الامور على السكة الصحيحة، تحتاج الى تضحيات من الجميع، ولكن أحداً لا يقبل اليوم بتقديم تضحيات ما دام مقتنعاً أنّ هناك فساداً وسرقة وهدراً، وأنّ تضحياته تذهب الى جيوب أُخرى وليست في سبيل تصحيح جذري للمستقبل.

كما انّ المستثمر لن يقتنع أنّ هناك عقلية إنتاجية حقيقية في البلد ما زالت المعطيات والمعلومات غائبة عنها.

لكل ذلك نحتاج الشفافية المطلقة، نحتاجها لإقناع الجميع بأنّ تضحياتهم هي فاعلة وذات معنى، وانّ المال العام يُدار بالطريقة الصحيحة.

نحتاج الشفافية المطلقة لإقناع المستثمر في الداخل والخارج أننا نبدأ عهداً جديداً من الوضوح والفعالية والإنتاجية.

وبعد الشفافية المطلقة يجب إيجاد طرق لزيادة الإنتاجية العامة وتكبير الثروة وتعميم البحبوحة وتأمين الحقوق للجميع، بنحو يخلق استدامة وتأمين فرص للإنتاج والعمل. فلقد حوّلنا هذا البلد بلداً غير صديق للمستثمر.

سأكتب مقالاً اسبوعياً، أتناول فيه كل مرّة وسيلة لزيادة الانتاج وتكبير حجم الثروات عبر الافكار الإنتاجية، لنحاول إطلاق سلسلة افكار فاعلة نتشارك معاً فيها لتوجيه البوصلة نحو التفكير الاقتصادي السليم، فنستطيع بذلك ان نكرّر تجربة سنغافورة في لبنان، وهو ليس بالشيء المستحيل.

إنّ أي إجراءات للتقشف لن يتم تقبّلها من الناس اليوم، لأنّ هناك اقتناعاً مطلقاً لدى الناس، أنّ الفساد مستشرٍ، وهناك صفقات وهدر للمال العام. وهذا لن يتحقق من دون الشفافية المطلقة، وأعني بها، أن تُصبح حسابات الدولة متاحة على الانترنت للجميع.

همّي الأول يبقى الوصول الى الشفافية المطلقة، وتعديل حق الوصول الى المعلومات، وهي لازمة أُرددها في كل مناسبة وفي مطلع وخاتمة أي حديث ومقال: «عدّلوا وطبّقوا قانون الحق في الوصول الى المعلومات». حتى بِتُّ اشعر أنني أشبه «كاتو» «Cato the censor» السيناتور والمستشار الروماني عام 193 قبل الميلاد، الذي كان يردّد في كل مناسبة ومهما كان موضوع الحديث «دمّروا قرطاجة» «Delenda est Cartago»، لأنهم كانوا يشعرون أنّ حضارة قرطاجة متقدّمة على روما في كل المجالات.

هذا القانون، إذا تمّ تعديله وإقراره كاملاً، سيشكّل الحل الأساس للشفافية الكاملة، وسيخلق أداة للمحاسبة والمراقبة في يد المواطن أولاً، والنواب والصحافة الاستقصائية ثانياً، بحيث يصبح من الصعب إخفاء الارتكابات المالية وغيرها.

فالمطلوب اليوم، ان يتمّ إقرار قانون يجعل الحسابات العامة والمناقصات ودفاتر الشروط والموازنات والعقود وكذلك الرخص المعطاة على أشكالها وانواعها، الإيرادات دون استثناء وكل المصاريف، مفتوحة ومتاحة للجميع على المواقع، وللاطلاع عليها بطريقة شفافة وواضحة دون استثناءات، كالدخول الى أي موقع متاح للجميع (amazon مثلاً)، لإشعار المسؤول بأنّ عمله يتم تقييمه ومتابعته. وهذا لن يتحقق ما لم تصبح كل الحسابات مفتوحة ليتسنّى لكل مواطن الإطلاع عليها وتقييمها، والتأكّد من انّ الضرائب التي يدفعها توضع في مكانها الصحيح.

يجب العمل على تعديل القانون، بحيث لا يتضمن اي استثناءات او ثغرات. والاستثناءات التي يتضمنها القانون الحالي، هي بحصر الرواتب بسقف خمسة ملايين ل.ل، واستثناء نشر رواتب وتقديمات الموظفين. بالاختصار، عدم حجب أي معلومات مهما كانت. وهناك نقطة اساسية، حيث يجب توضيح من عليه تطبيق القانون، بحيث يشمل أيضاً كل مؤسسة أو لجنة أو شركة خاصة تستفيد من المال العام أو مملوكة من القطاع العام مباشرة أو غير مباشرة او لديها حصرية لإدارة مرفق عام، وبالتالي يُصبِح لزاماً عليها فتح كل حساباتها.

الفكرة بسيطة ويجب عدم تعقيدها، وتتمثل بمنح المواطن القدرة على الاطلاع على حسابات الدولة واعمالها، أي بخلق نظام الكتروني على الشبكة يتيح للمواطن الدخول والاطلاع على حسابات الدولة كما هي، ببساطة، من دون استثناءات أو عراقيل. كيف تصرف الإدارة المعينة المال العام، أي مال المواطن، مال الضرائب.

ومن النقاط الاساسية أيضاً، وقف الصفقات في المشاريع، وذلك عبر شفافيّة إدارة المناقصات. فالمناقصات هي علّة العلل اليوم في عمل الدولة. فكم من الوقت والاموال تمّ هدرها بسبب تنفيعات المناقصات؟ كم بذل المواطن من وقته وجهده وماله بسبب تلزيمات لأشخاص غير كفوئين؟ كم من مشاريع امتدت لسنوات؟ كم من مشاريع شابتها الأخطاء وأُعيد تلزيمها بسبب مخالفة دفتر الشروط، والمواطن آخر من يعلم، ولا يملك اي معلومة حول المشاريع وكلفتها ومن ينفذها، علماً انّه المعني الاول والمشاريع تطاوله مباشرة؟

فمسيرة المناقصات تبدأ بنشر مشروع دفتر شروط، أي الاعلان عن المشروع وشروطه الأولية في المرحلة الاولى، بعدها يخضع دفتر الشروط الأولي الى ملاحظات المختصين من المواطنين، اي على الكلفة ووقت التنفيذ، الخ... وبعد إقرار دفتر الشروط، يتقدّم من يريد الى المناقصة بطريقة عادلة وشفافة، ويُعلن من ربح بالمناقصة ايضاً بوضوح، وابقاء دفتر الشروط متاحاً، ليتمكن المواطنون من المتابعة وتقييم العمل، وهذا حقهم الأساسي، لأنّ المواطن هو من يدفع كلفة تنفيذه.

سنشارككم كل سبت بمقال اقتصادي، نطرح فيه فكرة إنتاجية ونتشارك مع القرّاء بالأفكار والملاحظات، ومع الخبراء بالجدوى الاقتصادية لتلك الأفكار. وسيكون موضوع الأسبوع المقبل التعليم ورفع مستواه، لأنّه الرافعة الحقيقية للاقتصاد.