لم تكد "​صفقة القرن​"، او "صفقة العمر" على ما يحلو للبعض ان يطلق عليها، ان تظهر بعض مفاتنها على يد مستشار الرئيس الاميركي وصهره في الوقت نفسه ​جاريد كوشنر​، حتى كان لبنان من اوائل الذين عارضوها جملة وتفصيلاً، واعتبروها بمثابة "رصاصة الرحمة" للقضية ال​فلسطين​ية. صحيح ان دولاً كثيرة -وغالبيتها من ​الدول العربية​- كانت اعلنت رفضها هذه الصفقة، ولكن الرهان بقي كبيراً على عودة الدول نفسها عن هذا الموقف في وقت قريب، ولم يكن الظن خائباً اذ سرعان ما تم الاعلان عن مؤتمر ستستضيفه البحرين خلال اليومين المقبلين تحت عنوان "مؤتمر السلام الاقتصادي"، بمشاركة غالبية الدول العربية وشخصيّات اسرائيلية، فيما اعلن لبنان عدم المشاركة احتراماً لقرار الفلسطينيينمقاطعة المؤتمر.

اليوم، ستأتي الردود الرسمية اللبنانية بشكل فردي ومتتالٍ، ولكن الرد الرسمي كان صدر بالفعل منذ زمن وهو لن يتغيّر لاسباب كثيرة، وخصوصاً بعد اعلان كوشنر نفسه منذ ايام قليلة عن بعض بنود هذه "الصفقة" والتي ركّز من خلالها على استثمار نحو 50 مليار دولار للدول التي تستضيف الفلسطينيين على اراضيها ومنها لبنان. المفاجىء في الايام الماضية، كان قبول الاردن بالمشاركة، لان المملكة الهاشمية معنيّة بشكل مباشر بالتأثيرات السلبية لهذه الصفقة، واهمها خطر قيام دولة فلسطينية على اراضٍ اردنية. ولكن، كي لا نخرج من الحدود اللبنانية وتأثيرات هذه الصفقة على اللبنانيين، فمن المنصف القول ان اسس رفضها لا تزال قائمة، فهي ليست "مغرية" ان على المدى القصير او على المدى الطويل.

فعلى الصعيد الاقتصادي، وبحسب ما كشفه كوشنر، فإن حصة لبنان من الاستثمار "الاميركي" ستبلغ نحو 6 مليارات دولار لتحسين اوضاع الفلسطينيين، وهو بالاصل مبلغ غير كاف لتأمين اسس العيش لهم، لان المطلوب كما بات معروفاً دمجهم بالحياة اللبنانية. اضافة الى ذلك، فإن "الاغراء" يبقى ناقصاً لسبب وهو ان هذه الاموال لن تدفعها واشنطن بالتأكيد، ولا الدول الاوروبية، بل سيتم الاعتماد على الدول العربية وبشكل خاص الخليجيّة، وللبنان تجارب سابقة مع وعود بأموال بملايين الدولارات ان في مسألة ​النازحين السوريين​ او في مسألة المساعدات للفلسطينيين بقيت حبراً على ورق، ولم يستفد سوى من مساعدات وقروض ومنح خصصت لبعض المشاريع التنموية فقط.

وعلى المدى البعيد، لا يمكن القول ان مثل هذا المبلغ سيكون كافياً، فيما لو تم تأمينه بالفعل، لدمج الفلسطينيين في الحياة اللبنانية، لانّ الدولة ستصرف اكثر بكثير منه لتأمين ما يجب تأمينه لهؤلاء اللاجئين الذين سينسون فلسطين بشكل مؤكد.

هذه النظرة السريعة وغير المفصّلة للمشكلة الاقتصاديّة، تقابلها نظرة مماثلة للمشكلة السياسيّة، لانه، وبصورة سريعة ايضاً، يمكن فهم التداعيات الرئيسيّة للصفقة على الوضع اللبناني. فالاعلان عن موافقة الجميع عليها، يعني بطبيعة الحال انتهاء ايّ نزاع مع الاسرائيليين، وبالتالي انتفاء ايّ سبب للتنازع على اراضٍ ومياه واجواء وثروات طبيعيّة، والغاء ايّة حالة حرب باقية، وهذا يعني حكماً الغاء سبب وجود "​حزب الله​" وقوته العسكرية. الضربة الثانية تتمثل في تغيير الهويّة اللبنانية من خلال اعطاء حق التمثيل للفلسطينيين على المدى البعيد في المؤسسات الرسميّة اللبنانيّة (مجلس الوزراء، ​مجلس النواب​، البلديات...)، والا تمّ اتهام لبنان بأنه يمارس سياسة عنصريّة، ما ينبىء بالتالي بمزيد من الهجرة للبنانيين، وافراغ هذا البلد من سكانه الاصليين.

وتكتسب المسألة على الصعيد السياسي ايضاً بعداً آخر، يتمثل بتغيير ديموغرافي مهم من شأنه ان يقلب المقاييس، ويحدّد قوانين جديدة تمعن في ايذاء من سيتحوّلون الى اقليّة، وتحذّر الطوائف الاخرى من امكان الوصول الى تفرّد سياسيّ طائفي، عبر الطرق الديمقراطيّة، بالقرارات المحليّة والخارجيّة التي ستتّخذ.

هذا عرض بسيط وسريع لما يمكن ان تؤول اليه الاوضاع فيما لو سار لبنان بهذه الصفقة، ولكن يبقى رفضه محطّة نضال مستمرة لانّ الضغوط ستزداد وقد تكون هذه المعركة غير العسكرية، من اهم المعارك في تاريخه الحديث.