حادث إسقاط طائرة التجسس الأميركية فوق مقاطعة هرمزغان ال​إيران​ية والمطلة على ​مضيق هرمز​ أدخل المنطقة في منعطف كان من المفترض أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية حتمية بين ​أميركا​ وإيران ربطاً بالتوتر الذي كان سائداً، وخصوصاً بعد اتهام إيران بالوقوف خلف تفجير ناقلات نفط كانت ترسو في مياه الخليج، بيد أن الأحداث والتصاريح الأميركية المتتالية الصادرة عن الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ التي تلت إسقاط طائرة التجسس الأميركية، ألغت حتمية المواجهة العسكرية الأميركية مع إيران واكتفت بمنسوب عال من التوتر الممسوك وباشتباك مضبوط، حيث لن يؤديا إلى اندلاع حرب شاملة على إيران كما كانت تشتهي صقور ​البنتاغون​ و​المخابرات الأميركية​ الساعية إلى توجيه ضربة عسكرية أميركية لإيران تماماً كما حلفاء أميركا من دول الخليج و​إسرائيل​ الذين هللوا لحدث إسقاط الطائرة الأميركية، ظناً منهم أن سعيهم لحدوث مواجهة عسكرية بين إيران وأميركا قد أوتي أكله وحان وقت تذوق طعم الانتقام.

لكن ترامب خيب آمال الحلفاء بعد أن ضبط متلبساً بالارتباك والتخبط يفتش عن ثوب يستر فيه الخدش الظاهر الذي أصاب جسد الهيبة الأميركية ولم يجد أمامه إلا ارتداء ثوب الإنسانية الفضفاض للتستر خلفه ولو أنه ثوب مزيف.

وعلى الرغم من الخدش النازف الظاهر على وجه الهيبة الأميركية لم يكتف ترامب بإشهار حرصه على أرواح 150 من الإيرانيين، بيد أنه توجه إلى الإيرانيين بالشكر والعرفان لهم بالجميل لعدم إقدامهم على إسقاط طائرة أميركية أخرى مأهولة كانت تحلق في الأجواء الإيرانية مكلفة بمهمة التجسس وعلى متنها طاقم مؤلف من 38 ضابطاً أميركياً متخصصاً بالرصد والتجسس.

الحساب الفلكي الفارسي مشهود له بالدقة، وبما أن إيران تدرك معنى وقوع خسائر بشرية في صفوف الضباط الأميركيين حسب التقويم الأميركي، جاءت حسابات الفلك الفارسي بتجنب إسقاط الطائرة الأميركية المأهولة واختيار الطائرة المسيرة من دون طيار.

الأمر الذي جعل ترامب يتقن فن الحساب الفارسي وترجمته إلى التقويم الأميركي ما سهل فهم نتائج الحسابات الفارسية، أي بمعنى «نحن لا نسعى إلى إشعال حرب معكم لكننا قادرون على المواجهة ولن نقبل استمرار الحصار علينا أو التراجع عن حقنا والدفاع عن كرامتنا».

إذاً، ترامب فهم الرسالة الإيرانية فإذا به يتراجع عن توجيه ضربة عسكرية أميركية لإيران مكتفياً بفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية التي لن تغير من موقف إيران وقوبلت باستهزاء إيراني.

من هنا، فإن إيران استطاعت حشر ترامب في زاوية صعبة، نجح حتى الآن في احتوائها، لكنه لجأ إلى تأكيد اعتماد التكتيك السابق من خلال الاستمرار بوضع الخيار العسكري على الطاولة لإسكات جنرالات البنتاغون واحتواء صدمة إسقاط الطائرة، وزيادة ضغط العقوبات على إيران كتعويض معنوي.

ترامب بات في وضع البحث عن مخرج لأزمته التي قد تؤثر بقوّة في تجديد ولايته، لكن المفارقة اللافتة أن ترامب طلب من الإيرانيين أن يمدّوا له حبل النجاة لإنقاذه من ورطته وذلك حين قال إنه مستعد للتفاوض «سريعاً» مع ​طهران​ على صفقة نووية جديدة، مضيفاً: «في حال تخلى الإيرانيون عن برنامجهم النووي فسأكون أفضل أصدقائهم. وسيكون لديهم بلد غني، وسيكونون سعداء جداً.

عملياً المنطقة أمام مرحلة جديدة ستشهد مزيداً من المد والجزر في بحر الخليج، ومزيداً من عض الأصابع في أروقة الدبلوماسية وخصوصاً خلف محاولات تمرير ​صفقة القرن​، ويبدو أن لعبة عضّ الأصابع قد آلمت ترامب الذي بدأ يصرخ، على حين ما زال الإيرانيون يمارسون «هوايتهم» بشراء الوقت الذي سيؤدي بترامب إلى تقديم المزيد من المغريات والتنازلات عبر إعفاءات من العقوبات تطال كلاً من ​الصين​ و​الهند​ و​العراق​ و​تركيا​ والسماح لهم باستيراد النفط الإيراني على حساب حلفاء أميركا الخليجيين ومعهم العدو الإسرائيلي تحت وطأة المأزق الذي وضع نفسه فيه.

الخليجيون محبطون من قرار تراجع ترامب عن الضربة العسكرية وباتوا مدركين للخيبة وهم يترقبون ظهور نتائج الرسائل المتبادلة بين إيران وأميركا عبر وسطاء أوروبيين، من هنا تأتي زيارة وزير شؤون الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية أندرو موريسون إلى طهران في هذا السياق تحديداً، وإن كان ما يحمله من مقترحات ما زال مجهولاً، علماً أن بعض الدوائر توقّعت أن يكون الوزير البريطاني مستمعاً أكثر منه حاملاً لمقترحات محددة.

إذاً، ستبقى منطقة الخليج تتلاطم بين أمواج من الأحداث الأمنية المتفرقة تصرف نتائجها بين تنفيذ صفقة القرن وبين المصالح المتبادلة من خلال مفاوضات من المرجح أن تكون برعاية أممية روسية.

إلى حين تطابق الحسابات الفلكية الفارسية مع التقويم الأميركي، ترتسم معالم نفوذ جديدة في الخليج والمنطقة كسبت فيه إيران الحصة الوازنة، أما دول الخليج اللاهثة خلف حرب بالوساطة على إيران لإضعافها وتنفيذ صفقة القرن على حساب فلسطين والفلسطينيين لم يبق أمامها سوى تسديد فواتير ​البيت الأبيض​ في واشنطن وحصد الخيبات.