من دون شك فإنّ لسان حال الرئيس التركي رجب ​اردوغان​.. بعد هزيمة حزبه القاسية في انتخابات مدينة اسطنبول المعادة.. يقول: لو انني قبلت نتيجة الانتخابات الأولى ولم أخض حملة تشكيك بنتائجها والمطالبة بإعادتها، لكان أفضل لي وأشرف مئة مرة من الإصرار على إعادة إجراء الانتخابات مرة أخرى، لأنّ نتائجها جاءت أكثر إيلاماً له ولحزبه حيث أتت الخسارة مضاعفة وبفارق يصل إلى نحو مليون صوت.. فيما كان فوز مرشح الحزب الجمهوري المعارض في المرة السابقة بفارق آلاف الأصوات.. ولهذا فإنّ النتيجة كانت صاعقة وزادت من التأييد والتعاطف في المدينة مع مرشح المعارضة الذي سعى حزب العدالة إلى حرمانه من الفوز والتشكيك به..

نسوق ذلك للتأكيد على أهمية ومفصلية هذه الانتخابات والنتائج التي أسفرت عنها في مدينة اسطنبول التي تتمتع بأهمية كبيرة بين المدن التركية، فهي العاصمة الاقتصادية والثقل السكاني والعاصمة التاريخية للسلطنة العثمانية، ومنها صعد أردوغان وذاع صيته ووصل إلى ​رئاسة الجمهورية​.. وعندما تنجح المعارضة في إلحاق الهزيمة بمرشح أردوغان في هذه المدينة، وكذلك في العاصمة أنقرة وغيرها من المدن الهامة وذات الثقل في الحياة السياسية والاقتصادية، وأيضاً ذات الثقل الانتخابي، فهذا يعني أنّ ​حزب العدالة والتنمية​ برئاسة أردوغان قد مُني بخسارة جسيمة تؤشر إلى أنه بدأ مرحلة التراجع وفقدان التوازن والقدرة على الاحتفاظ بأهمّ مؤسسات شعبية خدماتية في المدن الرئيسية مما يوفر فرصة كبيرة للمعارضة بامتلاك المزيد من الأسلحة لتعزيز شعبيتها في الطريق إلى خوض معركة ​الانتخابات النيابية​ والرئاسية المقبلة وتحقيق طموحاتها للفوز فيها…

على أنّ هذه الهزيمة القاسية والمؤلمة لأردوغان إنما هي نتيجة عوامل عدة أهمّها:

العامل الأول: ظهور حزب العدالة أمام العالم بأنه يريد الانقلاب على نتائج العملية الديمقراطية وعدم اعترافه بخسارته الانتخابات في المرة الأولى في اسطنبول، وأدّى ذلك إلى زيادة التأييد والتضامن الشعبي مع مرشح المعارضة أكرم أمام أوغلو وفوزه بهذا الفارق الكبير…

العامل الثاني: توحد قوى المعارضة السياسية ذات الوزن الشعبي للمرة الأولى في مواجهة مرشح حزب العدالة.. ومن المعروف أنّ أحد أهمّ العوامل التي كانت تمكّن حزب العدالة من الفوز واكتساح معظم البلديات هو تشرذم وانقسام المعارضة وعدم تشكيلها لوائح موحدة لخوض الانتخابات مما كان يبعثر أصواتها..

العامل الثالث: تدهور الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، بعد سنوات من الازدهار والنموّ والتحسّن في قدرة الأتراك الشرائية، والذي كان شكل أساس تنامي قوة وصعود شعبية حزب العدالة والتنمية وفوزه المتتالي في الانتخابات البلدية والنيابية والرئاسية على مدى أكثر من عقدين…

العامل الرابع: انهيار سياسة صفر مشاكل مع دول حوار ​تركيا​ وحلّ مكانها عودة المشاكل والتوترات بسبب انقلاب أردوغان على هذه السياسة، وهو ما انعكس سلباً على وضع تركيا الاقتصادي والاجتماعي وأدّى إلى تراجع قيمة عملتها.. وزاد من ذلك تأرجح أردوغان بين ​روسيا​ وأميركا على خلفية الموقف مما يجري في سورية، وبالتالي عدم حسم خياراته وإصراره على مواصلة التدخل في شؤون سورية الداخلية ودعم ​الجماعات الإرهابية​ المسلحة في ​محافظة إدلب​ واحتلال أجزاء من الأرض السورية ورفض الانسحاب منها..

السبب الخامس: لجوء أردوغان إلى تشديد قبضته الأمنية القمعية ضدّ قوى المعارضة لسياساته وضدّ من كان حليفاً له مثل جماعة ​فتح الله غولن​، وشنّ حملة اعتقالات واسعة في الجيش ومؤسسات الدولة وطرد عشرات آلاف الموظفين إلى جانب إبعاد وتهميش رموز أساسية في حزب العدالة، مثل رئيس الحكومة ووزير الخارجية السابق أحمد داود اوغلو، والرئيس السابق للجمهورية عبد الله غل. مما أدّى الى نزف في قاعدته الشعبية وانحياز قطاعات واسعة من الأتراك، متضرّرة من هذه السياسة، إلى جانب قوى المعارضة..

هذه العوامل السالفة الذكر هي التي يمكن أن تفسّر لنا أسباب هزيمة حزب العدالة في اسطنبول، وغيرها من المدن، وهي ايضاً هزيمة شخصية لأردوغان الذي رفع من أهمية معركة اسطنبول إلى مستوى اعتبارها مصيرية بالنسبة له ولحزبه.. ولهذا فإنّ هذه الانتخابات البلدية ونتائجها الصادمة لحزب العدالة شكلت تحوّلاً هاماً في خارطة موازين القوى السياسية على المستوى الشعبي، حيث تؤشر بوضوح الى تراجع في شعبية حزب العدالة مقابل صعود في شعبية قوى المعارضة، التي أحسنت الاستفادة من أخطاء أردوغان والنتائج السلبية لسياساته، وحققت فوزاً ثميناً وغالياً في الانتخابات البلدية لا سيما في اسطنبول وانقرة.. غير أنّ مثل هذا النجاح للمعارضة يشكل بروفة للانتخابات النيابية والرئاسية القادمة.. طبعاً شرط أن تحسن الاستفادة من فوزها في الانتخابات البلدية والحفاظ على تحالفها وتقديم برنامج بديل قادر على التصدّي للأزمات التي تعاني منها تركيا وإخراجها منها.. كما أنّ الأمر مشروط أيضاً في أداء اردوغان وحزبه ومدى استعداده لمراجعة سياساته التي تسبّبت بهذه الخسارة الفادحة في أهمّ معاقله التي صعد منها الى قمة السلطة…