شكّل انتخاب خمسة من أعضاء ​المجلس الدستوري​ بوّابة انطلاق قطار ​التعيينات​ المرتقبة، والتي كثر الحديث حولها في الآونة الأخيرة، وإن بقي منقوصاً، بانتظار استكمال ​مجلس الوزراء​ المهمّة، بتعيين الأعضاء الخمسة الآخرين من المجلس، والذي أرجئ بانتظار التوافق السياسي الأوسع والأشمل.

إلا أنّ الانتخاب، والذي جاء أقرب إلى التعيين، باعتبار أنّ الاتفاق على أسماء المنتخَبين سبق الجلسة، أفرز برأي كثيرين، انتصاراً جديداً لمقاربة رئيس "​التيار الوطني الحر​" وزير الخارجية ​جبران باسيل​، في مواجهة خصومه داخل مجلس الوزراء الذين ارتفع صوتهم كثيراً أخيراً، وتحديداً رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، ورئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​.

هكذا، اقتصرت المعارضة على وجوهها التقليدية، "الكتائبية" منها والمستقلة، فيما صدّق جعجع وجنبلاط، للمفارقة، على نتيجة "التسوية" التي أفرزتها انتخابات "الدستوري"، من دون أن يرفعا الصوت ضدّ مبدأ "المحاصصة" الذي كرّسته العملية "الديمقراطية"، ولا حتى للمطالبة بآليّةٍ من هنا أو هناك، ولو من باب رفع العتب!.

ملاحظاتٌ بالجملة

لا شكّ أنّ ملاحظاتٍ بالجملة يمكن رصدها على عملية انتخاب أعضاء المجلس الدستوري الخمسة في مجلس النواب هذا الأسبوع، وقد تولّى سرد بعضها مَن رفض مِن النواب، على قلّتهم، المشاركة في ما أسموها "المسرحية"، وإن وقع هؤلاء أيضاً في فخّ بعض الأخطاء، خصوصاً لجهة الحديث عن عدم جواز حصول عملية الانتخاب في دورة استثنائية، وهو ما بدا موضع جدالٍ بالنسبة إلى الخبراء القانونيّين.

وتنطلق هذه الملاحظات بطبيعة الحال من مفهوم "المحاصصة" الذي بات أمراً معتاداً ومتكرّراً في السياسة اللبنانية، وإن اعتقد كثيرون أنّ "العهد القوي" سينجح في الحدّ منه، فإذا به يُتَّهَم من البعض بالقيام بالعكس تماماً، من خلال تكريسه، في سبيل الاستفادة من "مغانمه" لتوسيع النفوذ داخل الدولة. ولم تشذ انتخابات "الدستوري" عن هذه القاعدة، فجاءت على شكل "البصم" لاتفاق سياسيّ بين القوى الأساسية، التي لم توافق على التركيبة "التسووية"، إلا بعد ضمانها حصولها على "حقها"، أو تلقيها "وعوداً" بهذا الصدد.

ولأنّ الاتفاق الذي أفرز انتخابات "الدستوري" أتى على طريقة تقاسم قالب الحلوى بين "زعماء" الطوائف، رُسِمت علامات استفهام كثيرة حول "تعليب" دور مجلسٍ يفترض أن يكون "الحَكم" في الكثير من النزاعات السياسية، ما أوحى وكأنّ ما حصل قضى عملياً على المجلس الدستوري، وحوّله إلى مجرّد "أداة" في يد السياسيين، يحرّكونهما كيفما يشاؤون. ومع أنّ وجهة النظر هذه تبدو منطقية وسليمة مئة في المئة، فإنّها بدت لكثيرين بمثابة تهويلٍ ومبالغةٍ، باعتبار أنّ المجالس السابقة، وبينها المجلس الحاليّ، لم تُعيَّن بشكلٍ مغايرٍ، بل إنّها كانت دائماً تأتي نتيجة التسوية السياسية التي يتوافق عليها القابضون على الحكم، قافزين فوق اختلافاتهم الآنية والاستراتيجية على حدّ سواء.

وإذا كان ربط البعض توقيت الانتخابات بالطعن المقدَّم بنيابة عضو كتلة "المستقبل" ديما جمالي بدا غير موفَّق، خصوصاً أنّ كلّ الاجتهادات تميل إلى ضرورة إنهاء المجلس الحاليّ درس الطعن، علماً أنّ تركيبة المجلس الجديد لم تُستكمَل أصلاً ليستلم مهامه، فإنّ ثمّة ملاحظاتٍ في الشكل تستحق النقاش، بينها "السيناريو والإخراج" الذي تمّ في الجلسة، التي تحوّلت فجأة من تشريعية إلى انتخابيّة، من دون دعوة واضحة وصلت إلى النواب، سوى عبر التسريبات الإعلاميّة، فضلاً عن توزيع السير الانتخابية للمرشحين المفترضين قبل وقتٍ وجيزٍ من موعد الانتخاب، وهو وقتٌ لم يكن ليتيح لأحد التمعّن بها بطبيعة الحال.

أين جعجع وجنبلاط؟!

لكن، أبعد من كلّ هذه الملاحظات، يبقى الأكيد أنّ "مسرحية الانتخابات"، كما وصفها البعض، تمّت بمصادقة جميع مكوّنات الحكومة من دون استثناء، وعلى رأسها الحزبان اللذان حرصا في الفترة الأخيرة على تصوير نفسيهما وكأنّهما من سيتصدّيان للواقع الحاليّ، بل طالبا بآليّةٍ توصل أصحاب الكفاءة إلى المواقع المناسبة، بعيداً من الانتماءات السياسية.

ولعلّ أكثر السهام وُجّهت في هذا السياق إلى "الحزب التقدمي الاشتراكي"، الذي لم يتردّد في "البصم" على "التسوية"، طالما أنّه حصل على "حصّته" فيها، ما بدّد هواجسه السابقة من وجود نيّة لعزله وإقصائه، علماً أنّ قياديّين أساسيّين في الحزب، بينهم وزير الصناعة وائل أبو فاعور، أقرّوا صراحةً وجهاراً بأنّ ما حصل جاء نتيجة لتسويةٍ، بل ذهبوا إلى حدّ تلطيف اللهجة بعد ساعاتٍ فقط على دخولهم في "حروبٍ افتراضية" مع "شركائهم" في التسوية.

ومع أنّ "القوات اللبنانية" خرجت "من المولد بلا حمص"، كما يُقال شعبياً، فإنّها صدّقت بدورها على المحضر، انطلاقاً من "وعدٍ" قيل إنّها تلقّته من رئيسي البرلمان ​نبيه بري​ والحكومة ​سعد الحريري​ على تعيين مرشحها في مجلس الوزراء، علماً أنّ هذا الأمر لم يُحسَم بعد كما أوحت المعطيات، مع تأكيد أوساط "التيار الوطني الحر" خلال الساعات الماضية، حقّ الأخير في الحصّة المارونية، باعتباره التكتل المسيحيّ الأكبر.

وإذا كان "القواتيون" ومن خلفهم "الاشتراكيون" يبرّرون موقفهم بالقول إنّ ما ينطبق على انتخابات مجلس النواب لا ينطبق على تعيينات الحكومة، وبالتالي فإنّ لا مكان للآليّة في هذه المحطّة، على اعتبار أنّ أعضاء مجلس النواب أحرار في انتخاب من يريدون، وهذا ما حصل، فإنّ هناك من يردّ عليهم بالقول إنّه كان بإمكانهم أن يفعلوا مثل المعارضين وأن ينسحبوا احتجاجاً، إلا أنّهم لم يفعلوا ذلك كي لا يخسروا "حصّتهم الموعودة".

وبالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ ما حصل يعني أنّ الوزير جبران باسيل حقّق هدفاً في مرمى "القوات" و"الاشتراكي"، إذ إنّ مسار الأمور ثبّت انخراط هؤلاء في مسار "المحاصصة" الذي كرّسته انتخابات "الدستوري"، ما أوحى وكأنّ كلّ الصراخ الذي ارتفع في الأيام الماضية، لم يكن لأسباب "مبدئيّة" كما قيل، أكثر منها لأسباب "شخصيّة"، تنطلق من هواجس هذين الطرفين بأن يتمّ إقصاؤهما عن التعيينات، ما يجعلهما مجرّد "شاهدي زور" على "تسييس" التعيينات، وهو ما يبدو أنّهما يقبلان به إذا حصلا على "حصّة" بموجبه.

"الديمقراطية التوافقية"

ليس جديداً أن يأتي المجلس الدستوري، شأنه شأن كلّ المجالس الأخرى، سواء المنتخبة شكلياً أو المعيّنة فعلياً، على صورة الحكومة ومجلس النواب، اللذين تتحكّم بهما القوى السياسية نفسها، انطلاقاً من مبدأ "الديمقراطية التوافقية" التي لا تزال تتصدّر المشهد، وإن اتفق جميع اللبنانيين على "فشلها" في الممارسة.

وإذا كان البعض استبشر خيراً ببعض الأصوات المعارضة التي ظهرت في مجلس النواب، على خجلها وتواضعها، فإن ثمّة من يسأل عن إمكان صمودها في حال وصولها إلى السلطة، لتلتحق بمن سبقها بمن رفعوا الشعارات، وانقلبوا عليها عند أول استحقاق.

وبعيداً عن "جلد" أحد، فإنّ الأكيد أنّ موقف "الاشتراكي" و"القوات" يشكّل مجدّداً جرس إنذار على طريقة الإدارة المُعتمدة عموماً في البلاد، والتي لا يتحكّم بها على ما يبدو سوى مبدأ واحد، قوامه "أعطوني حصّتي وإلا"...