تتسم سياسة الولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام بالعجز عن فرض الإملاءات على دول العالم الرافضة لهيمنتها والتي تشكل تحدّياً كبيراً لاستمرار نظام القطب الأوحد الذي يتهاوى نتيجة التطورات العالمية على المستويات كافة العسكرية والاقتصادية والسياسية… عسكرياً لم تعد أميركا، بعد هزيمتها في العراق وفشلها في أفغانستان والخسائر الفادحة التي تكبّدتها مالياً وبشرياً، قادرة على شنّ حرب جديدة لعدم استطاعتها تحمّل أكلافها الباهظة جداً بسبب قدرات الدول التي تريد واشنطن الإطاحة بأنظمتها الوطنية المستقلة وغير التابعة، مثل سورية وإيران وفنزويلا، على التصدي ومقاومة ايّ عدوان أو غزو أميركي يستهدفها.. واقتصادياً لم تعد الولايات المتحدة تهيمن على الأسواق العالمية بعد أن نجحت دول عديدة ناهضة اقتصادياً من كسر هذه الهيمنة واحتلال مساحة مهمة من الأسواق حيث تمكّنت، مثلاً، المنتجات والسلع الصينية من غزو أسواق آسيا وأفريقيا ومنافسة مثيلاتها الأميركية، بقوة والحلول مكانها، مما أدّى إلى تراجع حصة أميركا من الناتج العالمي وبالتالي تقلص عائداتها المالية.. أما سياسياً فقد أدّت هزائم أميركا في العراق وأفغانستان، ومن ثم فشل حروبها الإرهابية وغير المباشر في سورية وضدّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى إضعاف مكانتها وهيبتها الدولية وبالتالي تراجع سطوتها على مجلس الأمن حيث لم تعد واشنطن قادرة على فرض تمرير مشاريع قراراتها التي تبيح لها استراحة سيادة الدول واستقلالها بفعل الفيتو الروسي الصيني…

ويسعى ترامب جاهداً لاستعادة هيبة وسطوة بلاده على المسرح الدولي، لكن عبر الانقلاب على القرارات الدولية والالتزامات الأميركية في الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعت عليها، إنْ مع روسيا أو مع إيران، والعودة إلى سياسة الحمائية المتعارضة مع العولمة وقوانين منظمة التجارة الدولية التي كانت أميركا وراء التشجيع عليها لإزالة الحواجز الجمركية وكلّ القيود التي تعيق حركة التبادل التجاري وانتقال الأفراد ورؤوس الأموال.. معلناً الحرب التجارية ضدّ الخصوم والحلفاء على السواء عبر رفع الرسوم على المواد والسلع التي تدخل إلى الولايات المتحدة.. مما تسبّب بردود مماثلة على إجراءاته، وبالتالي إلحاق الضرر الاقتصادي بالجميع.. ولأجل محاولة فرض اتفاقيات جديدة للتبادل التجاري، وتعديل اتفاقيات مثل الاتفاق النووي مع إيران، بما يحقق المصالح والأهداف الأميركية الاقتصادية والسياسية، لجأ ترامب إلى استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية ضدّ الصين وتركيا والاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك وروسيا وإيران إلخ… وطبعاً يستفيد ترامب في هذه الحرب الاقتصادية من عناصر قوة لا زالت الولايات المتحدة تتفرّد فيها، وهي تقدّمها التكنولوجي وهيمنتها على النظام المالي الدولي من خلال تحكمها بنظام التحويلات بالدولار عبر البنك المركزي الأميركي، وبالتالي قدرتها على فرض عقوبات ضدّ الدول والشركات العالمية التي ترفض الالتزام بالعقوبات الأميركية التي تفرضها مثلاً على إيران والصين، وطبعاً الدول والشركات التي لها مصالح تجارية كبيرة مع الولايات المتحدة ستكون مضطرة إلى الالتزام بالعقوبات، وهو ما تجسّد في وقف نشاطها الاستثماري في إيران، وعدم التعامل مع شركة هواوي الصينية..

لكن مع ذلك فإنّ واشنطن تواجه مشكلتين كبيرتين في الاستمرار في مثل هذه الحرب الاقتصادية، الأولى، إنّ الدول الأخرى التي تتعرّض للعقوبات الأميركية تملك القدرة على الردّ وإلحاق الخسائر بالاقتصاد الأميركي وانْ ليس بنفس النسبة التي تلحق بها، وهو ما دفع الشركات الأميركية المتضرّرة من حرب رفع الرسوم المتبادل بين واشنطن وبكين وكذلك المزارعين الأميركيين وغيرهم من الفئات الأميركية إلى رفع الصوت بمطالبة إدارة ترامب بمراعاة مصالحهم وعدم الاستمرار في هذه الحرب التي تلحق بهم خسائر كبيرة.. وهم غير قادرين عن الاستغناء عن سوق الصين الكبيرة وانْ وجدت بدائل عنها فإنها ستكون مكلفة عدا عن أنها لن تعوّض خسارة سوق الصين.. أما المشكلة الثانية فتكمن في أنّ هذه العقوبات تدفع الدول الرافضة لها والداعية إلى بناء نظام متعدّد الأقطاب يضع نهاية لنظام القطب الأوحد، إلى مقاومة هذه العقوبات عبر إيجاد بدائل تعزز التجارة في ما بينها بوساطة العملات الوطنية بدلاً من الدولار، وهو ما بدأت اعتماده فعلياً كلّ من الصين وروسيا وإيران، وسوف تتبعهم دول أخرى مثل الهند وتركيا وفنزويلا وكوبا إلخ… وفي الوقت نفسه فإنّ الصين وروسيا، الأولى تملك ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والثانية تملك القوة العسكرية التي تضاهي القوة الأميركية وأيضا الثروات الكبيرة وفرص الاستثمار الواعدة، قرّرتا عدم الالتزام بالعقوبات الأميركية الأحادية المفروضة على النفط الإيراني، فالصين أعلنت أنها ستواصل استيراد النفط من إيران وفعلا تسلّمت منذ أيام أول شحنة من إيران، وروسيا قرّرت بدورها أن تشتري النفط من إيران وتتولى شركاتها النفطية تسويقه وبيعه في الأسواق العالمية.. وفي المقابل اضطرت واشنطن إلى تمديد إعفاء العراق من عدم استيراد الغاز الإيراني وحاجته من الطاقة الكهربائية، فيما الدول الأوروبية ونتيجة قرار إيران البدء بتقليص التزاماتها بالاتفاق النووي بعد تلكّؤ الدول الغربية في تنفيذ موجباتها فيه، اضطرت هي الأخرى إلى المسارعة إلى عقد اجتماع مع إيران توصّل كما رشح عن اتفاق بإطلاق الاتحاد الأوروبي نظام للعمليات المالية مع إيران جرى فتحه أمام سبع دول أوروبية فقط، في حين تطالب موسكو بضرورة منح الانضمام إليه للدول خارج الاتحاد الاوروبي بما في ذلك روسيا.. لكن هذه القناة المالية لا تكفي برأي إيران إذا لم ترتبط باستئناف أوروبا استيراد النفط الايراني بالكميات التي كانت قبل فرض العقوبات الأميركية، وشراء البضائع والسلع التي تفرض عليها عقوبات أميركية، وإذا ما استجابت الدول الأوروبية لطلبات إيران، المنسجمة مع بنود الاتفاق النووي، فإنّ ذلك سيشكل بكلّ تأكيد تطوراً كبيراً يكسر من جهة الحصار الذي تفرضه إدارة ترامب، ويحدث بداية أول تمرّد أوروبي على القرار الأميركي، وهو ما دفع واشنطن إلى أن تدعو أوروبا إلى الاختيار بين التجارة مع أميركا وبين التجارة مع إيران… لكن الأمر الأكيد هو أنه لم يعد بالإمكان استمرار الدول الأوروبية في سياسة إطلاق الوعود المعسولة تجاه إيران من غير ترجمة عملية تلمسها طهران التي نفذت قرارها بزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم… ما يعني أنّ أوروبا باتت أمام تحدّ حقيقي لاتخاذ القرار، أما تنفيذ التزاماتها التي تضمن بقاء إيران متقيّدة بالاتفاق، أو استمرار خضوعها للهيمنة الأميركية…

هذه المشكلات الناجمة عن سياسة العقوبات الأميركية إنما تعكس التحوّل في ميزان القوى العالمي وعدم قدرة أميركا على استعادة هيمنتها الاقتصادية والسياسية على القرار الدولي، وانّ مثل هذه السياسة لا تقود إلا إلى مزيد من التمرّد على القرارات الأميركية الأحادية وزيادة أعداء الولايات المتحدة، وبالتالي تفاقم مشكلات الإمبراطورية الأميركية وكشف عجزها ومأزقها، النابع من عدم تسليمها بأنّ العالم أصبح متعدّداً وأنها لم تعد قادرة على الاحتفاظ بتربّعها على عرش العالم والتحكم به، وأنها اذا كانت تريد حلولاً للمشكلات العالمية فإنّ الطريق الى ذلك انما هو بتخليها عن الاستمرار في معاندة الواقع والإقرار بموازين القوى الدولية الجديدة واحترام سيادة واستقلال ومصالح الدول وعدم انتهاك القرارات والمواثيق الدولية.. وبالتالي حلّ مشكلاتها مع الدول بالحوار بعيداً عن منطق الهيمنة والعقوبات الاقتصادية…