كل ما شهده الجبل في الايام الماضية من احداث لم يكن منطقياً ولو لم يكن انسانياً ولا يعكس مشروع بلد يعمل على النهوض من ازمة اقتصادية يرزح تحتها، ويعمل على التفاوض من اجل حقه بحدوده المائية والبرية، ويناضل لابقاء الاستقرار الامني موجوداً في ربوعه.

لم يكن من المنطقي بشيء ان تفرض الطائفية نفسها كلاعب وحيد على الساحة ال​لبنان​ية، وان يطغى صوت الرصاص على صوت الاختلاف بالرأي السياسي والعملي، وان يفلح الموت في فرض سطوته وفي سرقة شبان في ربيع العمر من اجل... لا شيء. لقد اثبت الجميع انهم ليسوا على قدر المسؤولية في هذا البلد، ولعل التدبير الجدّي والمنطقي الوحيد الذي حصل، كان دعوة رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ الى اجتماع ​المجلس الاعلى للدفاع​ لبحث الموضوع ومعالجة تداعياته وفق المنظار الامني. وليس صحيحاً كما ردد البعض (عن خفّة) ان الدعوة اتت لأن وزير الخارجية ​جبران باسيل​ (صهر الرئيس) كان معنياً بالموضوع، وانه لو لم يكن كذلك لما انعقد المجلس. والحقيقة ان المسألة كانت اكبر بكثير من مجرد اطلاق نار، فالاتهامات لا تزال قائمة وقيد التحقيق حول تعرض وزير حالي لعمليّة اغتيال، كما ان الغليان الذي ساد الشارع الدرزي تحديداً، كان ينذر بتداعيات سلبيّة جداً، لذلك كان انعقاد المجلس وما صدر عنه من مقررات اساسياً لتفادي تنامي المشكلة وانتشار مفاعيلها السيئة في مناطق لبنانية اخرى.

وبانتظار جلاء الصورة وما ستظهره التحقيقات، فإن الخاسر الاكبر في هذا الموضوع كان الدولة اللبنانية وهيبتها، ولعل ابرز دليل على ذلك كان الاطاحة بجلسة مجلس الوزراء التي كانت مقررة امس. فهل من الممكن ان يتوقف المجلس عن العمل في كل المواضيع التي تهم البلد لارضاء اشخاص معيّنين، اياً كانت هويتهم؟ ولم يكن مقنعاً رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ في القول انه قرر تأجيل الجلسة بسبب الاحتقان السائد، فإذا لم تحلّ الامور في مجلس الوزراء ومجلس النواب، فهل يجب حلّها في الطريق؟ ألم يكن الحريري يعلم قبل بدء وصول الوزراء للمشاركة في الجلسة التي كان حددها، ان الاجواء متوترة ومتشنجة والاحتقان في ذروته؟ القرار اتى بكل بساطة لافساح المجال امام مساعي المدير العام للامن العام ​اللواء عباس ابراهيم​ لحلحلة الامور، وايجاد العنصر اللازم لفتح نافذة في الجدار القائم. هذا الامر ان دلّ على شيء، فعلى قلّة الثقة بالدولة واجهزتها الامنيّة والقضائيّة، من قبل اركان الدولة انفسهم. فلماذا يجب على اللواء ابراهيم القيام بجولات مكوكيّة بين الافرقاء السياسيين لحل مسألة لا يجب على احد التدخل بها سوى القضاء ليعلن حكمه وتتولى الاجهزة الامنيّة تنفيذ قراراته؟ ايّ رسالة نبعث بها الى اللبنانيين والعالم حول الجهد الذي نقوم به لارساء دولة القانون والمؤسسات في هذا البلد؟ يمكن المراهنة منذ الآن على ان النتيجة التي سيتم التوصل اليها لن تكون على قدر التوقّعات، وان كل الاطراف الاساسيين لن يتأثروا بالنتائج، على قاعدة "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم"، بينما يجب افهام الذئب بشكل واضح واساسي انّ هذه الاغنام غير مخصّصة له، ولا يمكنه استباحتها وقت ما يشاء.

ما شهدناه بالامس يضع مسماراً جديداً في نعش الدولة وهيبتها، وعلامة استفهام كبيرة حول المشاريع والوعود التي اطلقتها الدولة والحكومة، وشكوكاً حول بعض التقصير الذي ساد اداء الاجهزة الامنية قبل الحادثة المؤلمة التي لفّت لبنان مرة جديدة بالاحزان على ابواب فصل الصيف، واطاحت بمنطق الدولة والمؤسسات الذي ينادي به الجميع ولا يعمل احد على ترسيخه.