بعد الأَحد الدَّامي في الجَبل، لا بُدَّ من جَرْدة حسابٍ، محورُها: ماذا بَقي من "مُصالحة الجبل"؟. وما طَرحه النَّائب طلال إِرْسلان في مُؤْتمره الصِّحافيّ الاثنَين يفرض نفسه بعد هَوْل ما حدث... فقد سأَل: "هل الجَبل هو مِن ضِمْن حُكْم الدَّوْلة أَو خارج حُكْمها؟".

والمُصالحة الَّتي كان من المُتوقَّع لها أَنْ تَبْلغ سنَّ الرُّشد، في 4 آب المُقْبل، تَبْدو اليوم أقرب إلى دُخولها "غُرْفة الإِنْعاش" بدلاً مِن أَنْ تَتمتَّع برَبيع شبابِها!.

وإِذا نُظِر إِلى المُصالحة على اعْتِبار أَنَّها "أَتَت لتَكون مُؤشِّرًا اسْتقلاليًّا وسِياديًّا كبيرًا" –كما قيل– فإِنَّ ما حَدث يَنْفي التَّحلِّي بالرُّوح الاسْتِقلاليَّة، كما وبتَحمُّل مَسْؤوليَّة الاسْتِقلال، فبَدا وكأنَّه فَضْفاضٌ على الجِسْم اللُّبنانيّ.

وما حَدث لا يُؤكِّد أَنَّ مَن قام بـ"هَمْروجَة المُصالحة" في الجَبل، يَفي بتعهُّداتِه، بعد ثماني عشرة سنةً!.

وما حَدث ينفي قول رئيس "الحزب التَّقدُّميّ الاشتراكيّ" ​وليد جنبلاط​ "لقد أُقفل باب الحرب الّتي تعود إلى العام 1840"، بدليل أَنَّ على وزير خارجيَّة ​لبنان​ ورئيس أَكْبر تيَّار مسيحيّ–وطنيّ أَنْ يَسْتحصل على إِذْن عبور من "الإِدارة المَدَنيَّة" إذا ما رغِب في زيارة الجبل، أو أَنْ يَحْصل على مُوافقةٍ مُسْبقة مِن "التّقدُّميّ" على خطابه السِّياسيّ... وإِلاَّ ففاتورة الدَّم على أَخينا "إِنْ لَم نَجِد إلاَّ أَخانا"، وقَد تَكونُ عودةٌ لعقارب السَّاعة إِلى 1840 رُبَّما...

وما حَدث مِثالٌ لمَنْطِق عَدم قَبول الآخر، ونَتيجةً لوجود السِّلاح غَيْر الشَّرْعي في أَيادي الشَّعْب، ما يُهدِّد السِّلْم الأَهْلي. فهَل حانَت ساعَة نَزْع السِّلاح غَيْر الشَّرْعيّ؟.

غير أَنَّ ما يَشْفع بالبلاد والعِباد، وبالجبل والسَّهل معًا... هو وجود العُقلاء من المُوحِّدين الأَجلاّء الَّذين هم فعلاً لا قولاً "بيِّ الصَّبيّ، والوطن و​الجيش​ ومقاومة الفتنة النّائمة...

وما يَشْفَع أَنَّ المُصالحة جاءَت تَعْبيرًا عن رَغْبة النَّاس، وتصميمهم على العَيْش الواحد، في منْطقة الجَبل، وترجمةً لرَغْبتهم في طيِّ صَفْحة الحَرْب ومآسيها، وإِعادة اللُّحمة الوطنيَّة إِلى الجبل والوطن كلَّه... وهذا "المزاج الشَّعْبيّ ما زال على حاله، لا بل اشْتدَّ عوده...

إِنَّ أَيَّ مُصالحةٍ، لا يُمْكن إِلاَّ أَنْ تَكون مبنيَّةً على العَدالة والاعْتِراف بالخَطأ والتَّعالي عَليه... وهذا ما لا يَبْدو أَنَّه تمَّ لَدى بعض الجِهات السِّياسيَّة حتَّى السَّاعة!.

دَور الدَّولة

لقد وضعت التَّطوُّرات الدّراماتيكيَّة الأَخيرة الدَّوْلة أَمام حتميَّة أَنْ تفرض هَيْبتها ووجودَها، وإِلاَّ فإِنَّ النَّائب إِرسلان يَعْلم كيف "يُفيِّي على ضَيْعته بكَعْبه"، على ما قال. وخَيْرٌ للدَّوْلة أَنْ "تحفظ حقَّ النَّاس" كَيْلا "تَكون عُرْضةً للشُّبُهات". بخاصَّةٍ وأَنَّ إِرسْلان قَد أَلمَح في مُؤْتَمَره أَنَّ "الفِتْنة قَد خُطِّطَ لها، وتمَّ التَّحْريض علَيْها قبل يومَيْن"...

وفي هذا السِّياق لا بُدَّ مِن الإِشارة إِلى أَنَّ حِكْمَة رَئيس الجُمْهوريَّة العماد ​ميشال عون​ في اسْتيعاب التَّطوُّرات الخَطِرة، والطَّلب من النَّائب إِرْسلان تَرْك الأَجْهزة الأَمنيَّة والقضائيَّة تَقوم بدَوْرها بغَطاءٍ سياسيٍّ، تثبيتًا للسِّلْم الأَهْليِّ، وتَجاوب الأَخير مع دَعْوة الرَّئيس، وتَعاليه عن الجرح العَميق بِسُقوط إثنين "من خيرَة شَباب الجَبل"، وما صَدر عن اجْتِماع "مَجْلس الدِّفاع الأَعْلى" في القَصْر الجُمْهوريّ في ​بعبدا​ الاثنَين، ساهم أَيْضًا في تَبْريد الجَبل المُلْتهب برَصاص مُزَعْزِعي السِّلْم الأَهْليِّ...

والدَّولة مُطالَبَةٌ اليومَ، وبكلِّ أَجْهزتها، بإِجراء تَحْقيقٍ شفَّافٍ، يَصِلُ إلى خواتيمِه، وبكَشْف المُتورِّطين وبإِنزال أَشدِّ العُقوبات بكلِّ مَن يُثْبت تورُّطه في العَبث بالأَمْن والاسْتقرار كما وبحَياة النَّاس.

لقد باتَ على الجَميع أَنْ يَعْلم أَنَّ اعْتِبار الشَّارع والتَّحريض أَداتَيْن لإِيْصال الرَّسائل مِن المُحرَّمات، وأَنَّ الرَّسائل السِّياسيَّة العَنيفة لا تُؤَدِّي إِلى الخَيْر، كما ولا تَخْدم مَصْلحة البلد...