كانت كلّ التوقّعات ترجّح أن يلغي رئيس "​التيار الوطني الحر​" وزير الخارجية ​جبران باسيل​ زيارته إلى ​مدينة طرابلس​، بعد الضجّة التي أثيرت حولها، خصوصاً أنّها جاءت بعد أسبوعٍ واحدٍ على أحداث الجبل، التي خلّفت قتيلين من مرافقي وزير الدولة لشؤون النازحين ​صالح الغريب​، والتي جاءت على وقع زيارة باسيل.

إلا أنّ الرجل لم يُلغِ الزيارة، التي جاءت للمفارقة متزامنةً مع مراسم تشييع أحد مرافقي الغريب، وإن عدّل في توقيتها ومضمونها، ما جعلها برأي كثيرين باهتة، بعدما اقتصرت على لقاءٍ حزبيّ يتيم وبحضور خجول، ما دلّ على إصرار باسيل على "رمزيّة" الزيارة، ولو بالحدّ الأدنى المُتاح، تفادياً ربما لسيناريو تصويره متراجعاً أو منهزماً.

وفي وقتٍ أحيت الزيارة الصراعات التقليديّة بين المكوّنات اللبنانية، سواء بين باسيل والقيادات الطرابلسيّة، أو بين "التيار الوطني الحر" و"​القوات اللبنانية​"، يتساءل كثيرون عمّا إذا كان باسيل أخطأ بعدم إلغاء الزيارة، حتى توفير ظروفٍ أفضل لها، أقلّه أسوة بجلسة الحكومة التي كان هو من عرّابي تأجيلها...

انتقاداتٌ بالجملة...

صحيحٌ أنّ زيارة باسيل إلى طرابلس مرّت بسلاسةٍ ومن دون أضرار تُذكَر، مقارنةً بما حصل قبل أسبوع في الجبل، إلا أنّها في المضمون، وفي السياسة، لم تمرّ من دون ضجّة اعتبرها كثيرون مفتعلة، وهي ضجّة استبقت الزيارة وواكبتها، واستمرّت بعدها.

ولعلّ مبرّر هذه الضجّة جاء من حيث التوقيت أولاً، إذ إنّ باسيل حطّ في طرابلس، في الوقت نفسه الذي كان فيه أحد مرافقي الوزير صالح الغريب يشيَّع إلى مثواه الأخير، بعدما قضى في معركة لا طائل منها، على هامش زيارة وزير الخارجية إلى الجبل، والتي لا تزال تداعياتها حيّة في الواقع اللبناني.

من هنا، يعتبر خصوم باسيل أنّ زيارة طرابلس ما كان يجب أن تتمّ في وقتٍ لم يكن ضحايا أحداث الجبل قد دُفِنوا بعد، أقلّه لأخذ العِبَر ممّا حصل، وتفادي تكراره في أيّ مكان، علماً أنّ زيارة طرابلس أتت مشابهة شكلاً لزيارة الجبل، إذ إنّها لم تكن منسّقة مع أيّ من القيادات "الطرابلسية"، التي كان لافتاً أنّها "نأت بنفسها" عنها، بل إنّ معظمها ارتأى الابتعاد عن طرابلس خلالها، في حين جاهر آخرون برفضها، كما فعل الوزير السابق اللواء ​أشرف ريفي​، الذي وصلت به المبالغة إلى حدّ تشبيهها بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ​أرييل شارون​ إلى المسجد الأقصى.

لكن، أبعد من الشكل، يرى خصوم باسيل أنّ الدليل الأسطع على أنّ الزيارة ما كان يجب أن تتمّ يتجلى في نتائجها، إذ إنّها لم تحقّق أياً من أهدافها المرجوّة أو المبتغاة، بدليل الحضور الباهت في اللقاء الذي أجراه باسيل مع المحازبين والمناصرين، والذي فاقه حجماً وتأثيراً الحضور العسكري المُبالَغ به المواكب للزيارة. ومن وجهة نظر هؤلاء، فإنّ باسيل حاول صرف النظر عن فشل الزيارة الواضح هذا، باستعادة الخطاب "الاستفزازي" في مكانٍ ما، خصوصاً إزاء "القوات"، مفتعلاً بذلك صراعاً جديداً، يبدو أنّه "يهوى" أن يرافقه أينما كان، على حدّ قولهم.

شكراً للخصوم!

لكن، في مقابل وجهة النظر هذه، وجهة نظر أخرى، تستغرب الحكم المبرم بالفشل على زيارةٍ، لم تستحوذ فقط على اهتمام الشارع الطرابلسي، بل على اهتمام الرأي العام كاملاً في البلد، وتجنّدت وسائل الإعلام لتغطيتها بشكلٍ مباشرٍ، في مفارقةٍ لم تحدث في أيّ من الزيارات التي قام بها باسيل سابقاً، في إطار جولاته المناطقية الأسبوعية.

ومع أنّ المقرّبين من باسيل لا ينكرون أنّ فكرة إرجاء الزيارة طُرِحت في وقتٍ ما جدياً على بساط البحث، فإنّهم يجزمون أنّ خصوم باسيل هم الذين دفعوا الأخير إلى صرف النظر عنها، بل ثبّتوا الزيارة في موعدها، أياً كانت الظروف، من خلال تشويشهم المتعمَّد وغير المبرَّر عليها، وتصويرها وكأنّها جريمة أو خيانة في مكانٍ ما، مع أنّ باسيل سبق له أن زار طرابلس أكثر من مرّة، من دون أيّ طنّة أو رنّة.

وانطلاقاً من ذلك، يرى "التيار الوطني الحر" أنّ لخصوم باسيل فضلاً لا لبس فيه، في نجاح الزيارة بكلّ مضامينها، بعدما حوّلوا وجود باسيل في طرابلس بحدّ ذاته "انتصاراً"، مع أنّ الزيارة كان يمكن أن تمرّ مرور الكرام، شأنها شأن غيرها من الزيارات السابقة، فإذا بهم يجعلونها "حدثاً" ويؤمّنون له "البروباغندا" المطلوبة، وهو ما لم يكن ليغيظ باسيل، الذي ظهر مرّة أخرى بمظهر المنفتح الذي يمدّ يده إلى شركائه في الوطن، في حين أنّ بعض هؤلاء الشركاء يصرّ على قطع الطريق عليه، مكرّساً منطق الغيتوات الذي لا يشبه أهالي طرابلس.

ولعلّ باسيل عرف كيف يستغلّ هذه النقطة، عندما توجّه بالشكر في خطابه إلى المعتصمين المحتجّين على زيارته، مع أنّ عددهم كان خجولاً جداً، وهو بذلك أراد أن يقول إنّه مَدينٌ لهؤلاء، ومن دفعهم إلى التحرك، بالشكر، لأنّهم منحوا زيارته نجاحاً لم يكن يتوقّعه، بعدما اضطر إلى تعديل برنامجها وأجندتها، ليغيب عنها أيّ لقاءٍ مع أيّ من قيادات المدينة، بمن فيهم النائب ​فيصل كرامي​ الذي كان يفترض أن يستقبله في دارته. وهو استغلّ الأمر أيضاً في الخطاب الذي ألقاه، والذي شرح فيه كيف أنّه لا يمكن أن يُمنَع من زيارة طرابلس، وهو ما لا يجب أن يكون أصلاً محطّ أخذ وردّ وجدال، في بلدٍ يتباهى ليلاً ونهاراً بالعيش المشترك.

من أخطأ؟!

في الخلاصة، ليس بمبالغةٍ القول إنّ وزير الخارجية لم يخطئ بعدم إلغاء زيارة طرابلس، على رغم كلّ "الشكليات" التي رافقتها، والتي قد لا تصبّ في صالحه، باعتبار أنّ "الرمزية" التي أرادها باسيل من الزيارة تحقّقت، وهنا بيت القصيد.

وفي المقابل، ليس بمبالغةٍ القول أيضاً، إنّ خصوم باسيل هم الذين أخطأوا بالتصويب على الزيارة، التي يفترض أن تكون أمراً بديهياً وعادياً لا يستحقّ أصلاً النقاش، فقدّموا له الهدايا المجانيّة، وحوّلوا زيارةً كان يمكن أن تمرّ مرور الكرام إلى "حدث" بكلّ ما للكلمة من معنى.

وإذا كان باسيل متّهَماً من خصومه باعتماد نهج "الاستفزاز"، فإنّ الواقع يوحي أنّهم فعلاً استُفِزّوا، ولم تكن ردّة فعلهم موفّقة، بل قدّمت لوزير الخارجية أكثر بكثير ممّا كان يتمناه ويطمح إليه...