عندما إندفع ​الصين​يون بإتجاه ​لبنان​ في الأشهر القليلة الماضية، بقاعاً وشمالاً، تضاعف الأمل بنهضة إقتصادية في محافظتين لبنانيتين تحتاجان للأدوار الإقتصاديّة لتحقيق الإنتعاش الإجتماعي المطلوب. لكن الحديث عن الإستثمار الصيني الحكومي في ​طرابلس​، والخاص في البقاع، تراجع رغم الرغبة الصينيّة في العمل ضمن الأراضي اللبنانيّة لمواكبة التمدّد الإستثماري الصيني في الشرق الأوسط. كان يرغب الصينيون التمركز في لبنان على مقربة من ​سوريا​ التي لم تقرّر بكّين الإستثمار على أراضيها، لحسابات تتعلق بالتفاهم مع الروس الّذين يرتبطون مع دمشق بحلف يخولّهم إبداء الرأي بشأن الإستثمارات الضخمة. فمن أطلق السهام على الخطوات الصينية فجمّدها؟.

يقول المطّلعون أن عوامل عديدة فرضت خيارات الإنتظار والترقب الصيني، لكن ثمّة معلومات تتحدث عن رفض أميركي لأيّ دور صيني في لبنان، أدّى إلى عدم إقدام المسؤولين اللبنانيين على مؤازرة الخطوات الصينيّة، لا بل عدم تسهيل مهام الشركات الصينيّة الراغبة في الإستثمار على الاراضي اللبنانيّة.

هل يعني ذلك أن الصين قد تعود للتفكير مجددا بالإستثمار في سوريا بعد رفض اللبنانيين الضمني للمشاريع الصينية؟.

ربما تحاول بكّين سلوك الطريق السوري عبر موسكو، كما ظهر في كلام الرئيس الصيني شي جين فينغ من روسيا الشهر الماضي، فقال إن بلاده تقف على أهبة الاستعداد للمشاركة في اعمار سوريا، وفقا لقدراتها. مما يعني حكماً ان النقاش الروسي-الأميركي مفتوح بشأن دور بكّين في سوريا بشكل خاص و​الشرق الاوسط​ بشكل عام. رغم ان باحثين استراتيجيين يعتبرون ان استعداد الصين للدخول الى المساحة السوريّة هو لدعم الروس ومشاكسة الأميركيين، لا غير. أمّا الإستثمار في لبنان فلا يلبّي رغباتها الإقتصاديّة المنتجة، حيث تغيب مقدّرات الطاقة والمناجم والثروات الطبيعيّة. وتنحصر الرغبة الصينيّة للتواجد في لبنان، بأهميّة موقعه الجغرافي وسهولة تشريعاته وقوانينه وطبيعة الحياة المريحة فيه نظراً إلى انفتاح وتنوّع المجتمع اللبناني، ما يجعله مركزا تجاريّا اساسيّا للصين في الشرق الاوسط.

لكن مصلحة لبنان تكمن في الحضور الصيني لترجمة قدرات بكّين في مجال البنى التحتية، خصوصا ان اموال "سيدر" ستكون مخصصة لتلك المشاريع، بينما تستطيع بكين اخراج سوريا من حال النكبة التي اصابت مدنها وقراها جرّاء الحرب، فتؤسّس البنى التحتيّة والطرقات والقطارات والاتصالات ومحطات توليد الكهرباء والطاقة. هي مشاريع مخطّط لها اساساً في السلوك الصيني القائم وفق مبادرة "الحزام والطريق"، او بشأن "السلام من خلال التنمية".

لكن حتى الساعة يمكن تلخيص جملة مطبّات تحول دون دور صيني متقدم في لبنان وسوريا: لن يرضى الأميركيون بأيّ إستثمار لبكّين في لبنان، وهم سيضغطون لإجهاض أيّ مشاريع تشريعات تسهّل الإستثمارات الصينيّة. يقول مطّلعون ان كل الجهود التي بذلها لبنانيّون ومن بينهم النائب ​سيزار المعلوف​ لتأسيس بيئة سياسية مؤاتية لجذب الشركات الصينيّة لم تلاقِ تشجيعا حكوميّا لبنانياً حتى الآن، علما ان الشركات الصينية اندفعت بشكل لافت في رغبتها لتأسيس أرضيّة صناعيّة وإستثماريّة في البقاع. بينما كان سياسيّون آخرون يركّزون على حصر الإستثمار الصيني في طرابلس. ومن هنا تتوالى المشاريع النيابيّة في تقديم إقتراحات للمناطق الإقتصاديّة.

اما بالنسبة الى سوريا، فلم تسارع الشركات الصينيّة الى العمل في سوريا، لأنها تنتظر إشارات حكوميّة مباشرة من بكّين. العنوان هو انتظار انتهاء الحرب، لكن في الجوهر يوجد أسباب اخرى ترتبط بالتوازنات الدوليّة. اضافة الى وجود مخاوف من ألاّ تتمكن سوريا من تسديد القروض التي تحصل عليها.

واذا تمّ استحضار الدور الصيني في سوريا أثناء الحرب، فهي لعبت بالتنسيق مع الروس في إعادة ضبط الساحة السوريّة من خلال الاعمال الدبلوماسيّة في مجلس الأمن، وتعيين مبعوث خاص الى دمشق، ودعم موقف موسكو في التوسط لحلّ الأزمة، واستضافت عام 2016 ممثلي الحكومة السوريّة وممثلين عن المعارضة، بينما كانت ترسل مستشارين لتقديم مساعدات وتأهيل الجيش السوري، وارسال مساعدات انسانية وتقنيات مهمة كمولدات الكهرباء، لكن رغم كل ذلك انحصر الاهتمام الاستخباراتي والعسكري الصيني عمليا بالمسلحين الإيغور القادمين من الصين الى ريفي ادلب واللاذقيّة. كان الهمّ منع اعادتهم او تمدّد نفوذهم الى الاراضي الصينيّة مجدّدا، لا بل معرفة كل شبكاتهم الارهابيّة التي من الممكن ان تشكل خطرا على الامن القومي الصيني. على الرغم من كل تلك الخطوات، بقيت تعبر الصين الى سوريا عبر روسيا. ولذلك لا يمكن لها ان تعبر اقتصاديا الان الا من خلال دور روسي مباشر، مما يعني ان الرغبة الصينية في كسر الحصار الأميركي ستُحدد مسارها بالتنسيق الروسي-الصيني. لغاية اليوم لم تتضّح الرؤى ولا السيناريوهات العمليّة لا بشأن لبنان ولا حول سوريا. وفي حال اراد الصينيون والروس ذلك لكانوا حققوا اجتياحا اقتصاديا من دون قدرة الأميركيين على صدّ الإجتياح. انه الإقتصاد هو عنوان المرحلة الحاليّة. من يستطيع ان يسيطر فيه سيكسب سياسيا وإقتصاديا واجتماعيا.