في الانتخابات النيابية الأخيرة، انتُقِد رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية ​جبران باسيل​ على تحالفاته التي تجاوزت برأي كثيرين المنطق، بعدما جمعت اليمين واليسار في خندقٍ واحدٍ، لكنّه لم يجد مكاناً لحليفٍ مسيحيٍ واحدٍ على مساحة الوطن، بعد إعلانه الصدام مع الجميع، من "​تيار المردة​" إلى حزبي "القوات" و"الكتائب".

لم يختلف المشهد كثيراً بعد الانتخابات، بل إنّ هناك من يتّهم باسيل بتعمّد توسيع الهوّة بينه وبين القوى المسيحيّة، من دون تمييز بين تلك التي تشاركه "جنّة الحكم" وتلك التي اختارت التموضع في المعارضة، ولا تمييزٍ أيضاً بين تلك التي ربطت حزبه بها تفاهماتٌ ومصالحاتٌ وُصِفت يوماً بـ"التاريخية والمفصليّة".

وإذا كانت "القوّات اللبنانيّة" في صدارة منتقدي سياسة باسيل هذه، فإنّ المفارقة برأي كثيرين أنّها باتت اليوم أول المقتدين بها، وما سجالها الأخير الذي بدا "مفتعَلاً" مع حزب "الكتائب" سوى الدليل الأسطع على ذلك، خصوصاً بعدما اقتنعت على ما يبدو بانتهاء مفعول "تفاهم معراب"، بمختلف مضامينه وعناوينه...

لا حلفاء؟!

تماماً كما فعل الوزير جبران باسيل في مستهلّ "العهد"، حين اختار "التبرؤ" من كلّ التحالفات والتفاهمات، والتغريد في سربه الخاص، سعياً لتحقيق رؤيته للبلد، تفعل "​القوات اللبنانية​" اليوم، بعدما أصبحت مكشوفة الظهر بشكلٍ أو بآخر، من دون حلفاء بالمعنى الحرفيّ للكلمة، على الصعيد الوطنيّ ككلّ، وعلى الصعيد المسيحيّ بصورةٍ خاصة.

فإذا كانت "القوات" تحافظ على علاقةٍ جيّدة مع "​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، لا ترتقي إلى مستوى "التحالف"، وكذلك مع "تيار المستقبل"، ولو بنسبةٍ أدنى، فإنّ علاقتها مع القوى المسيحيّة تبدو في أدنى السلّم، باستثناء "تيّار المردة" الذي لا تتخطّى علاقتها به أصلاً البعد الاجتماعي، ترجمة لـ"المصالحة" التي حصلت أخيراً، والتي يبقى مستبعَداً أن تكون لها أيّ انعكاسات سياسية واضحة، بعيداً عن "النكاية" بباسيل.

ولعلّ الدرك الذي وصلت إليه العلاقة بين "القوات" و"التيار الوطني الحر" يختزل المسألة برمّتها، خصوصاً أنّ القاصي والداني يعلمان أنّ "القوات" عندما تفاهمت مع "التيار"، وتبنّت انتخاب العماد ​ميشال عون​ رئيساً للجمهورية، ظنّت أنّها حجزت بذلك موقعاً متقدّماً لنفسها في التركيبة، يجعلها بمصاف "عرّاب العهد" إن جاز التعبير. إلا أنّ الرياح جرت بما لا تشتهي سفن معراب، التي لم تتردّد في الفترة الأخيرة، في توجيه السهام إلى الوزير باسيل، بعدما أيقنت أنّ فرص إعادة إحياء "تفاهم معراب" شبه معدومة، وأنّ محاولاتها الفصل بين الأخير ورئيس الجمهورية ميشال عون، لن تجدي ولن تنفع.

لكنّ المفاجأة الصاعقة تمثّلت في الأيام الأخيرة من خلال السجال الذي نشب بين "القوات" و"الكتائب"، على خلفية تصريحٍ للنائب سامي الجميل، اتهم فيه رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ ورئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​، بـ"الاستسلام والخضوع". لم يعبّر هذا التصريح بطبيعة الحال عن "انقلابٍ" في رؤية "الكتائب"، بل إنّه أتى نسخة طبق الأصل عن تصريحاته منذ ما قبل تشكيل الحكومة، بدليل صمت الحريري وعدم تعليقه عليه. لكنّه مع ذلك، قوبل بردّ عالي اللهجة من "القوات"، التي اتهمت الجميل بـ "تخطي الحدود"، وانتقدت سياساته داخل الحزب، ما فُسّر بأنّه تكريسٌ للتباعُد المُطلَق بين الجانبين، انسجاماً ربما مع السياسة "القواتية" الجديدة.

العين بالعين!

قد يكون سجال "القوات" و"الكتائب"، الذي أتى في الزمان والمكان غير المناسبيْن برأي كثيرين، على وقع ما تشهده الساحة اللبنانية من صراعاتٍ مفصليّة، الأكثر تعبيراً عن موضة "تصفير الحلفاء" التي بدأها باسيل، وتستكملها "القوات" اليوم، خصوصاً أنّ الجانبين كما بات معروفاً يتقاسمان الصحن الشعبيّ نفسه تقريباً، وبالتالي فإنّ من شأن مثل هذه السجالات أن تلعب على وتر "الشعبوية"، لتستقطب الجمهور في هذا الاتجاه أو ذاك.

لكن، في مقابل وجهة النظر هذه، وجهة نظر يعبّر عنها الدائرون في فلك "القوات"، بعيداً عن كلّ هذه الحسابات، قوامها مبدأ واضح هو "العين بالعين والسنّ بالسنّ والبادي أظلم". بمعنى آخر، تعتبر "القوات" أنّ كلّ ما يشوب علاقتها بالقوى الأخرى، تسبّبت به هذه القوى، بمعزلٍ عن أيّ اعتبارٍ آخر، إذ إنّ "القوات" كانت دائماً التي تمدّ يدها، وتنفتح على الآخرين، من دون أن تلقى التجاوب المطلوب.

وبحسب هؤلاء، فإنّ أحداً لا يستطيع أن يشكّ بأنّ "التيار الوطني الحر" هو الذي أدار ظهره للعلاقة مع "القوات"، بعد تنصّله من كلّ التزاماته بموجب "تفاهم معراب"، في الحكومة والتعيينات وغيرها، بعكس "القوات" التي قامت بكلّ ما تعهّدت به وأكثر، منذ انتخاب عون رئيساً، والتي بقيت حتى الرمق الأخير، متمسّكة بالتفاهم على رغم كلّ تحفّظاتها على الأداء، حتى أنّ محاولاتها الفصل بين عون وباسيل، والتي ينتقدها كثيرون عنها، تصبّ أولاً وأخيراً في خانة التمسّك بهذا التفاهم، وليس العكس، خصوصاً في ضوء "الاستفزازات" المتكرّرة وغير المبرّرة التي يقوم بها باسيل تجاه "القوات"، وآخرها خطابه في طرابلس، حيث استحضر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رشيد كرامي، في غمزٍ غير موفّق ولا بريء من قناة "القوات".

لكن، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تعمد إلى تفجير سجالاتٍ تدرك قبل غيرها أنّ لا طائل منها، كما حصل مع "الكتائب" أخيراً؟!

يقول "القواتيون" هنا أيضاً أنّ النائب سامي الجميل هو "البادئ"، فهو الذي يكرّر في كلّ المناسبات اتهاماته لـ "القوات"، ويصرّ على إظهارها عاجزة وخاضعة ومستسلمة، من دون أيّ مراعاة للقواسم المشتركة بين الجانبين، أو للحلف الذي كان قائماً بينهما في يومٍ من الأيام، في حين أنّ رئيس حزب "القوات" لا يتردّد في إظهار "حنينه" بين الفينة والأخرى لتحالف "14 آذار"، بل يصرّ على أنّه لا يزال في موقعه، كما قال في مؤتمره الصحافي الأخير. ويشيرون إلى أنّ كلام الجميل لم يعد يمكن أن يمرّ من دون ردّ، خصوصاً أنّ ما تقوم به "القوات" اليوم من دورٍ بنّاء في المعارضة ولو من قلب السلطة، سبق أن جرّبته "الكتائب"، ولم تنسحب منه إلا عندما ظنّت أنّ مصلحتها الانتخابية تقتضي ذلك، قبل أن تكتشف في الانتخابات النيابية حجم الخطأ الذي ارتكبته، والذي يبدو أنّها تريد جرّ "القوات" وغيرها إليه اليوم.

موضة رائجة

قد تكون سياسة "تصفير الحلفاء" موضة رائجة اليوم، باعتبار أنّ لكلّ فريق رؤيته الخاصة، التي قد لا يشاركه بها غيره، فضلاً عن كونه يريد أن ينسب أيّ "إنجازٍ" يحقّقه لنفسه، من دون أن يشاركه به أحد آخر، فيحرمه من "الامتيازات" الناتجة عنه، كما حصل في السابق.

من هذا المنطلق، يمكن أن يكون السجال بين "القوات" و"الكتائب"، بعكس ما يعتقد كثيرون، مجدياً للفريقيْن، اللذين يتنافسان على جمهورٍ واحدٍ بشكلٍ أو بآخر، يتقاسم المبادئ والثوابت نفسها، وإن اختلفت التطبيقات بين قيادة هذا الفريق وذاك.

لكن، وحتى لو صحّت هذه النظرية، يبقى الأكيد أنّ السياسة عملٌ جماعيّ بالدرجة الأولى، وأنّ أيّ مواجهة حتى تنجح، لا بدّ أن تتضمّن تضافراً للجهود، خصوصاً أنّ التجربة أثبتت أنّ لا مجال للإقصاء والعزل، وإلا أصبح الأمر بمثابة انتحارٍ سياسيّ، قد يقضي على الجميع دفعةً واحدة...