ليست مصادَفةً أنْ يُكرِّسَ الڤاتيكان البطريركَ الياس الحويّك بارَّا مُــكَــرَّمًا ـــ وهي درجةٌ تمهيديٌّة نحو القداسة ـــ عشيّةَ مئويّةِ إعلانِ دولةِ ​لبنان​َ الكبير. إذا كان بارًّا مَن صَنعَ لبنانَ الكبيرَ، فلبنانُ الكبيرُ بارٌّ أيضًا. هذه رسالةٌ يوجِّهُها أعلى مرجِعٍ مسيحيٍّ في العالمِ إلى اللبنانيّين عمومًا، والموارنةِ خصوصًا، بأنْ يُنقِذوا إرثَ هذا البطريرك، الوطنَ ـــ الوديعة. إنّها علاماتُ الزمانِ ويدُ العنايةِ ودورةُ الأجيال. ويَظهرُ أنَّ أسهلَ على الله أنْ يَجِدَ قِدّيسين في لبنان من أنْ يَجِدَ رجالَ دولة. عجائبُ قِدّيسينا أكثرُ من إنجازاتِ رجالاتِنا.

منذ انزلَق لبنانُ في الحروبِ سنةَ 1975 وانفَجرت وِحدتُه وترنَّحت صيغتُه وهَزَلت دولتُه وسابَت حدودُه، والكنيسةُ تَرفِدُه بـمُكرَّمين وطوباويّين وقِدّيسين لإيقافِ النزْف. من ​مار شربل​ سنةَ 1977 وصولًا إلى البطريرك الحويك سنةَ 2019 مرورًا برَفقا والحَرديني والدويهي ويعقوب الكبّوشي وإسطفان نعمه.

هؤلاءِ قِدّيسون موارِنةٌ لكنّهم ليسوا للموارنةِ وللمسيحيّين امتيازًا، هُم للمسلمين حقًّا، للإنسان. هَلمّوا تَوجَّهوا إلى مَزاراتِهم تَـــرَوْا مسلمين وعربًا وعجمًا يُصلّون بين المسيحيّين ويَتشفَّعون ويَضرَعون ويُستجابُ لهم. الانتماءُ لا يَحصُر الإشعاع.

هكذا كلّما أحْدَق خطرٌ بلبنانَ يَظهَرُ قِدّيسٌ من بلادي يَنتَشِلُه من الغَرق، يُوقِفه على رِجلَيه، يُحيي الإيمانَ في شعبِه والرجاء، ويَضَعه على طريقِ الخلاص. لكنْ، ما إنْ يُغمِضَ القِدّيسُ عينَيه لحظةً حتّى يُعودَ اللبنانيّون إلى العبَثِ بأنفسِهم ويُحوِّلون لبنانَ البارَّ وطنًا بائرًا (كاسدًا).

لأن إنقاذَ لبنانَ الكبير صعبٌ من خلالِ حُكاّمه المتعاقِبين، يحاول الڤاتيكان، اليومَ، إنقاذَه من خلال رجل ٍمن التاريخ وبسلاحِ القداسةِ. ما عدا صحوةً جَماعيّةً ـــ لئلا نقولَ أعجوبةً ـــ تُشفي اللبنانيّين من انقساماتِهم، لا تلوحُ فرصةٌ جديّةٌ تُحيي صيغةَ لبنان الأصيلة، خصوصًا أنَّ مَنْحاها الانحداريَّ لم يَتغيّر منذ ستّين عامًا. ورغمَ ذلك ظلّت الجماعةُ المسيحيّةُ، عند كلِّ منعطفٍ، منتصرةً كانت أم مهزومةً، تجدِّدُ إيمانَها بالخِيارِ الوِحدويِّ أمَلًا بنجاحِه مستقبَلًا.

اختار المسيحيّون الحياةَ مع الآخَرين ترجمةً لتعاليم ​الإنجيل​، وحِرصًا على انتمائِهم إلى محيطِهم المباشَر وعلى دورهِم التفاعلي بين الشرقِ والغرب والمسيحيّةِ و​الإسلام​ وبين الأقلّياتِ والأكثريّات. وأتَت الشراكةُ الوطنيّةُ في "لبنان الكبير" تجسيدًا مِغوارًا لهذا الخِيارِ التاريخيّ. صارت القضيّةُ دولةً. صار الإنجيل والقرآن جسدًا جغرافيًّا وإنسانيًّا.

أهمُّ إنجازاتِ لبنانَ الكبير بسلطتِه المركزيّةِ كانت: 1) ولادةُ أولِّ كيانٍ دستوريٍّ معترَفٍ به عربيًّا ودوليًّا يُثبِّتُ الوجودَ اللبنانيَّ المستقِل والحرَّ والآمِن على كاملِ الأرضِ اللبنانيّة، وفيه يمارسُ اللبنانيّون الشراكةَ المتساويةَ سياسيًّا ووطنيَّا. 2) تأسيسُ أوّلِ صيغةِ تعايشٍ مسيحيٍّ/إسلاميٍّ خارجَ "الخلافةِ الإسلاميّةِ" وبرئاسةِ مسيحيٍّ. 3) إرساءُ أوّلِ نظامٍ ديمقراطيٍّ برلمانيٍّ ليبراليٍّ في الشرق. 4) توفيرُ الحرّياتِ الدينيّةِ والفكريّةِ والسياسيّةِ الفرديّةِ والجماعيّة. 5) بروزُ هذا الكيانِ واحةَ علمٍ وثقافةٍ ورُقيٍّ وحداثةٍ.

مقابلَ هذه الإنجازاتِ وَقعت إخفاقاتٌ جوهريّةٌ أخطرُها: 1) نقصٌ في الولاءِ الوطنيِّ، وربطُ الانتماءِ إلى لبنان بامتلاك ِالدولة. 2) رهنُ الشراكةِ الميثاقيّةِ تدريجًا بالعددِ لا بالتعدّديّة، وبالسلاحِ لا بالشرعيّة، وبعروبةِ هوّيةِ لبنان لا بلبنانيَّتِها. 3) العملُ على تغييرِ النظامِ والصيغةِ، والاستعانةُ دوريًّا بقوى مسلَّحةٍ خارجيّة، والالتحاقُ بمشاريعَ إقليميّةٍ مناقِضةٍ المشروعَ اللبنانيّ. 4) إنشاءُ دويلاتٍ كاملةِ البُنى التحتيّةِ والعسكريّةِ بموازاةِ الدولةِ اللبنانيّة ومؤسّساتِها، وخلقُ أنماطِ حياةٍ مناقضةٍ التقاليدَ اللبنانية. 5) تعريضُ أجيالِ لبنانَ دوريًّا لامتحاناتِ الدَمِ والاستشهاد. 6) الانقلابُ على عِلّةِ تكوينِ لبنان ودورِه ورسالتِه. هذه النكباتُ والإعاقاتُ زَعْزعت الإيمانَ بوِحدةِ لبنان ما يَستوجِبُ التقييمَ واستخلاصَ العِبرِ الجريئةِ.

الغريبُ أنّه منذ تَـمَّ الاعترافُ بلبنانَ "وطنًا نهائيًّا" صار لبنانُ "حالةً انتقاليّة" أكثرَ ممّا كان عليه زمنَ اعتُبرَ "وطنًا مرحليًّا". الحقيقةُ أنَّ المسيحيَّ لا يؤمن بلبنانَ الكبير إلا إذا هو حَكمَه بـــــ"ميثاقِ 1943"، والسُنّيُ لا يؤمن به إلا إذا هو حَكمَه بدستورِ "​الطائف​"، والشيعيُّ لا يؤمن به إلا إذا هو حَكمه خارجَ الميثاقِ والطائف، والدُرزيُّ لا يؤمن به إلا إذا استعادَ خصوصيّةَ الجبل. لكنَّ هذه الأمنياتِ باتت شبهَ مستحيلةٍ بفعلِ ذِهنيّةِ احتكارِ الحِصصِ الدستوريّةِ والتغييراتِ الديمغرافيّةِ والمنطقِ العُنفيّ. إنَّ اتّفاقَنا على الوطن نَقَصَه التفاهمُ على الوطنيّة. لقد صار لبنانُ مشروعَ سلطةِ لا مشروعَ شَراكة. وصار الترقيعُ لا يُغني عن التغيير.

النظامُ اللبنانيُّ الدستوريُّ والميثاقيُّ عاجِزٌ عن استيعابِ التحوّلات الدينيّةِ والاجتماعيّةِ والسلطويّةِ التي التَصَقت بالمجتمعِ اللبنانيِّ فغيّرت حياتَه الطوائفيّةَ والسياسيّة. وإذ تُعتَبرُ الأزمةُ الاجتماعيّةُ اللبنانيّةُ أمَّ الأزَمات، فلا يَعني ذلك الحالةَ المعيشيّةَ والاقتصاديّةَ تحديدًا بقدْرِ ما يَعني التحوّلاتِ الاجتماعيّةَ الحاصلةَ خِلافًا لتقاليدِ لبنان وشخصيّتِه وتاريخِه وروحِ صيغتِه. ليست هذه هي الطوائفَ اللبنانيّةَ، وليس هؤلاءِ هم المسيحيّين والشيعةَ والسُنّةَ والدروزَ الّذين تَعاهدوا سابقًا على الشراكةِ الوطنيّة. الصيغويّون صاروا أقليّةً في بيئاتِهم.

لذلك إنَّ السؤالَ الكبير الذي نطرحه على عَرّابِ "لبنانَ الكبير"، المكرَّمِ البطريرك ​الياس الحويك​ هو التالي: طالَبْتَ في "​مؤتمر​ ﭬـرساي" سنةَ 1919 بإنشاءِ "دولة لبنان الكبير" استنادًا إلى معطياتٍ ديمغرافيّةٍ وأمنيّةٍ واقتصاديّةٍ كانت قائمةً إثرَ سقوطِ السلطنةِ العثمانيّة، هل تُطالبُ مجدّدًا بـــ"لبنان الكبير" لو قِيضَ لك أنْ تذهبَ إلى "مؤتمر ﭬـرساي" جديدٍ سنةَ 2019 فيما المعطياتُ مختلفةٌ كليًّا عمّا كانت عليه آنذاك؟

حَسْبي أنَّ لبنانَ الــــ 10452 كلم² ليس سؤالًا ولا خِيارًا. إنّه لبنان.