قبل كل شيء، لا بد من التنويه والتنوير إلى أننا منذ نصف قرن كان وضعنا أحسن.

نعم كان وضعنا أحسن!

لماذا؟ لأنه منذ نصف قرن تمَّ وضع قانون المحاسبة العمومية الذي على أساسه توضَع ​الموازنة​ وكل ما له علاقة بالموازنة... وبعد خمسين عامًا لا نعرف كيف نُنجز قانونًا أقل أهمية بكثير.

ما سيحدث اليوم في ​مجلس النواب​ كان يجب ان يحدث في تشرين الأول 2018، فالموعد الدستوري لأنجاز موازنة العام 2019 هو بين تشرين الاول 2018 وآخر كانون الأول 2018، ولكي يكون الإقرار دستوريًا يجب ان يترافق مع إصدار "قطع الحساب" للسنة التي سبقت أي:

موازنة 2019 بالتزامن مع قطع حساب 2017 يجب ان يكون منجزًأ في 2018.

الذي يحدث اليوم مغايرٌ كليًا:

موازنة 2019 لم تُنجَز بعد

قطع الحساب لم يُنجَز بعد

والـ 2020 على الأبواب.

فهل نحن في دولة أو في ماذا؟ ومَن يحاسب مَن؟

***

تقول المادة 3 من قانون المحاسبة العمومية الصادر عام 1963 أي منذ قرابة نصف قرن:

"الموازنة صك تشريعي تقدَّر فيه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة، وتجاز بموجبه الجباية والإنفاق".

المسؤولون عندنا يقرأون القوانين بالمقلوب:

"الصك التشريعي عن نفقات وواردات سنة مقبلة "يصبح" الصك التشريعي عن سنة تكاد ان تنتهي"! أليست هذه قراءة بالمقلوب؟

***

ونصل إلى الطامة قطع الحساب:

"قطع الحساب" هو عبارة عن الموازنة الفعلية التي نفذت أي النفقات الحكومية التي تم انفاقها خلال السنة المالية مقابل واردات الموازنة التي تم تحصيلها.

الفرق بين الواردات والنفقات اما يكون عجزا إذا كانت النفقات أكثر من الواردات أو ان يكون وفرة إذا كانت الواردات أكثر .

آخر قطع حساب كان عام 2003 وقد وافق عليه مجلس النواب مع انه كان هناك عيوب وشوائب ولكن المجلس لم يدقق به واقره على عيوبه .

عدم إقرار قطع الحساب قبل نشر الموازنة مخالف للدستور وبالتحديد للمادة 87.

إذًا البلد أمام مخالفة متمادية منذ العام 2004، إذ منذ ذلك التاريخ لم يُنجَز قطع الحساب.

ومجلس النواب اليوم لن يسمع الجملة التالية:

"إنّ حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تُعرض على مجلس النواب ليُوافق عليها قبل نشر الموازنة"، فهل سيفهم النواب ان "إنجاز قطع الحساب يجب ان يسبق إنجاز الموازنة"؟

فعلى سبيل المثال لا الحصر: المطلوب إرسال قطع الحساب إلى ​ديوان المحاسبة​ قبل 15 آب من السنة التي تلي سنة الموازنة المنوي اقرارها.

اليوم، كأن مجلس النواب يعود من غربة بدأت عام 2005 حين تحقق قطع الحساب عن العام 2003، ففي أي عصر حجري نعيش؟

***

إن وزير المال ​علي حسن خليل​ يعاني من حِمل "تركة ثقيلة" لوزراء مال تعاقبوا على ​وزارة المال​ية من دون ان يقدِّموا قطع حساب، فهل المطلوب منه اليوم أن "يسد ​العجز​ ويغطي فضل مَن سبقوه في وزارة المال"؟

فحتى لو قامت وزارة المال اليوم بجهود جبَّارة، فإن الأمر لن يكون سهلًا لأجراء قطع حساب عن ثلاثة عشر عامًا تُرِكَت بفوضى مالية عامة. والخطر الأكبر ان هناك ما يشبه خلط الحسابات، ما يعيق التوصل إلى إجراء قطع حساب وفقاً للأصول والقانون.

"قطع الحساب هو الوسيلة التي تسمح لنا بمعرفة ماذا أنفقنا من الموازنة، وعدم إجراء قطع الحساب يعني تغييب عامل المُحاسبة الأساسي والضروري في الانتظام المالي".

***

أليس التحليلُ مدروساً معمَّقاً جريئاً واضحاً، مبسِّطاً للرأي العام، ان أهميةَ الموازنات دون قطع حساب مخالفةٌ دستوريةٌ جسيمة.

بما إن "سيدر" على الأبواب أصبح قطعُ الحساب بعد 16 عاماً أمراً ملحاً وضرورياً ومجلس النواب التزم للمرة الأولى بإقراره مع كل شوائبِه،ِ وتحويله الى ​مجلس الوزراء​.