"​الحياة​ تعاش أمّا القصص فتروى"، هكذا يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، أو بمعنى آخر إنّ الحياة تعاش بقدر ما تروى، وتصل إلى ملئها في التأمل والتدوين، وإلى حالة الذروة عندما توضع بين دفتي كتاب. اعتقد هذا ما دفع ريما مراد إلى جمع خبرتها وخواطرها والتأملات، في كتاب بعنوان "من هنا وهناك". احداث ومواقف وجلسات اصبحت محطات وعبرًا، تأخذ منها الحكمة في زورق ينقلك من ضفة إلى أخرى في دائرة هرمينوطيقية لا تنتهي.

إن اعترافات السيدة مراد في أسلوبها الأدبي المميز، والسهل المبطّن بحنكة النساء، في الحب والعشق والجنون، ونوبات الخيانة والمسامحة والغفران، يزداد الحب عندها شغفًا، والخيانة لذة، فتحيل سر الاعتراف من كرسيه إلى كتاب يختصر حياة؛ فتكسر وتكشف عن سر لطالما تخفيه النساء المرهفات الاحساس بالابتسامات والنظرات اكثر بكثير من وقع الكلمات، فإذا بالأديبة تبوح به على متن صفحات بيضاء.

في كتاب "من هنا وهناك" تجد ​المرأة​ العاشقة والمعشوقة، الأديبة والشاعرة، بل اكثر، إنها ترسم ​حالات​ من الحب كرسّام تائه في جماليات هذا الكون الفسيح، فلا يعود الحب حالة صبيانيّة إنّما يتخطى العشق ليصبح قضية إنسانية ولا ارقى! "أنت وأنا شعاعا شمس، ينوّران الدروب المظلمة، ويكشفان أسرار العشاق على مقاعد الحدائق، ويرويان قصصهما، ثم يصبحان شعاعًا واحدًا قويًا يضيء بنوره قلوب التّائهين" وتسأل "أمن الخطأ أن يحلم الإنسان.. ويرسم قلاعًا على الرّمال وهو يدري أن الأمواج سوف تذرّيها إلى البعيد".

أمّا لمحطات اليأس والأمل عند مراد فخلاصات واستنتاجات معاشة، تعيد معنى الحياة ورونقها، فيتجوهر يأسها إلى حالة صوفية، فتكتب بريشة الألم "حالة من اليأس أعيشها لا أدري نهايتها، حالة من الجفاف واليباس، اقتلعت الأخضر الذي كان يدبّ في حياتي، ويعطيها معنى، حالة من اللّاوجود أشعر بها.. حالة من اللّا إستقرار تسيطر عليّ، تفقدني وعيي، وتغمض عينيّ" فيتحول يأسها فجاة إلى حالة مناجاة وصلاة "اشفق يا ربي عليّ فأنا أعيش في مجهول لا ادري نهايته، امهلني إلهي الوقت لكي أسوّي حياتي من جديد، أعد إليّ حب الحياة و​الضحك​ واللّعب. لا تطرحني إلهي من وجهك فأنا بحاجة إليك.. وأنت معيني الوحيد".

في التجارب المعاشة خبرات تنقلها المؤلّفة بين "ما علمتني الحياة" لتقابلها "لا اريد أن اكون" عاصفة في اعماق الذات والارتطام بالواقع المرير تختار الأديبة العيش في "إمارة الحب الباقية مدى الدهر". ولم يتوقف حبها على اعتاب هذه البسيطة للتتخطّى حواجز الإيمان الفطري إلى لاهوت التحرير، وتقف، وجهًا إلى وجه أمام العزة الإلهية في مقاربة فلسفية، لتسأل عن ​العدل​ في هذه الحياة، بل تحملها جرأتها على السؤال عن العدل الإلهيّ! فتتحول الكاتبة إلى صدى يدخل فتحات السماء، وتصرخ "باسم كل إنسان شريف على هذه الأرض أطلب منك يا إلهيّ..".

في أدب مراد، ينجلي ​الضباب​ ويعود الرجاء، مع قرب انبلاج فجر، لتؤمن بولادة جديدة، وتدعو إلى عيش بفرح الواقع بعيدًا عن التخيلات، جعلت القناعة دستور حياة، وفي الإيمان العميق يشعر الإنسان بالراحة والأمان، فحياة قصيرة وسر الموت ينتظراننا، ولا بد من اللقاء..

لربما يجد من يقرأ كتاب "من هنا وهناك" تناصًا أو تزامنًا أو توارد افكار بين طاغور ومراد، فهو من قال: "متى احبت المرأة كان الحب عندها دينًا وكان حبيبها موضوع التقديس والعبادة". اجد أن الكاتبة مراد احبت الحياة بملئها وجعلت مواضيعها للكتابة، واحبت الحب في المطلق وجعلته في موضع التقديس والعبادة.