بالنسبة إلى كثيرين، شكّلت زيارة اليوم الواحد التي قام بها رؤساء الوزراء السابقون ​نجيب ميقاتي​ و​فؤاد السنيورة​ و​تمام سلام​ إلى ​السعودية​، محطة مفصليّة في العلاقة مع المملكة، عزّزتها التصريحات التي أدلوا بها أثناء وبعد الزيارة، وأوحت بوجود تحوّل نوعيّ في السياسة السعودية إزاء ​لبنان​، قد تبدأ ثمراتها بالظهور في الأيام المقبلة.

ولعلّ انتعاش الأسواق الماليّة بعد الزيارة أملاً بمشاريع سعودية جديدة منتظرة في لبنان ترجم هذا التفاؤل، الذي أتى ليُضاف إلى سلسلة مؤشّرات طفت على سطح العلاقة اللبنانية-السعودية في الآونة الأخيرة، بعد مرحلةٍ من الجمود والفتور، خصوصاً مع رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، الذي يقال في الأوساط السياسية إنّه لم يعد من "المحظيّين" سعودياً.

وإذا كانت "سيناريوهات" كثيرة رُسِمت حول الزيارة وخلفيّاتها ونتائجها، توازياً مع عودة الحديث عن تحصين اتفاق الطائف بل تأسيس مجالس جديدة باسمه، لا يبدو أنّ أيّ "قلق" ينتاب خصوم الحريري اللدودين في صفوف الثامن من آذار، الذين بدوا مطمئنّين إلى أنّ الحريري باقٍ في تموضعه الحاليّ، بل أنّه لن "ينعطف"، أو "ينقلب على نفسه"، أياً كانت الدوافع والظروف!.

دعم معنويّ

في القراءة السياسيّة، لا شكّ أنّ زيارة رؤساء الوزراء السابقين إلى السعودية، والتي أتت منسّقة بكامل تفاصيلها وحيثياتها مع رئيس الحكومة سعد الحريري وفق المعطيات المتوافرة، حملت عنوان دعم مقام ​رئاسة الحكومة​ وبالتالي رئيس الحكومة الحاليّ سعد الحريري بالدرجة الأولى، في ظلّ ما يُثار بين الفينة والأخرى عن استهدافٍ ممنهجٍ له، أو مصادرةٍ لصلاحيّاته من هنا أو هناك.

ولأنّ رؤساء الوزراء السابقين، الذين تربط بعضهم خصومات بالحريري، ويُعتبَرون منافسين له، ارتأوا أن يكونوا في هذه المرحلة، بمثابة "رؤساء ظلّ" إن جاز التعبير، ولعبوا في أكثر من مرحلة دور "الرافعة المعنوية" له، خصوصاً في مراحل الخلاف مع "التيار الوطني الحر" أو "حزب الله"، حيث كانوا يستطيعون أن يرفعوا الصوت ويقولوا ما لا يستطيع هو أن يقوله، فُسّرت الزيارة في مكانٍ ما على أنّها رسالة إلى هذين الطرفين بالتحديد، بأنّ السنّة في لبنان، ممثلين بالحريري، ليسوا متروكين، وأن المظلة الإقليمية الداعمة للرجل لم تتزحزح مثلما يشاع هنا أو هناك.

إلا أنّ هذه القراءة لا تبدو صادمة بالنسبة لخصوم الحريري، خصوصاً في قوى الثامن من آذار، التي تؤكد أوساطها أنّ الزيارة لم تخرج عن أدبيّات الدعم المعنويّ والكلاميّ، للقول ربما إنّ مقام رئاسة الحكومة لن يكون "مكسر عصا" لأحد، وأنّ سُنّة لبنان ليسوا متروكين، وإن كان هناك انطباع بأنّ السعودية نأت بنفسها عن الوضع اللبناني في الفترة الأخيرة، لأسبابٍ واعتباراتٍ كثيرة، قد تكون العلاقة الملتبسة مع الحريري شخصياً أحد أوجهها، وإن تحسّنت شكلياً بصورة ملحوظة.

لكن، أبعد من الكلام المعسول، يصرّ أصحاب هذا الرأي على أنّ توقّع تغييرات جوهريّة في العلاقة السعودية بلبنان أمرٌ مبالَغٌ به، بل ان لا مؤشّرات فعليّة لأيّ تغييرٍ كبيرٍ في السياسة السعودية في هذه المرحلة، خصوصاً في ضوء الحرب الباردة التي تخوضها المملكة مع إيران، واعتبارها أنّ طهران لا تزال تتحكّم بجزءٍ كبيرٍ بالسياسة اللبنانية، بفعل التسوية الرئاسية، التي لا يبدو المسؤولون في السعودية راضين عنها، علماً أنّ كثيرين توقفوا عند خلو جدول اجتماعات رؤساء الوزراء السابقين في المملكة من أيّ لقاء مع وليّ العهد محمد بن سلمان، وهو المعنيّ الأول والأساسي بالموضوع.

العقل أولاً!

لكن، في مقابل هذه القراءة غير القلِقة لقوى الثامن من آذار من انعكاساتٍ للزيارة على صعيد السياسات الخارجية، ثمّة من يتساءل عن إمكانية وجود "ترجمة" داخلية لها، قد تصل إلى حدّ انتقال الحريري من ضفة إلى أخرى، أو "انقلابه" على التسوية الرئاسية التي كبّلته وقيّدته، وهي التي دفعت أصلاً إلى "مأسسة" رؤساء الحكومات السابقين إن جاز التعبير، وذلك بالاتّكاء على دعمٍ سعوديّ منظور، وإن لم يكن ملموساً.

إلا أنّ هذا السيناريو، ولو وجد ضالته في الإعلام، حيث تمّ الترويج له بكثافة في اليومين الماضين، لا يبدو واقعياً ولا محتملاً برأي أوساط "8 آذار"، التي تبدو مطمئنّة، بل واثقة بأنّ رئيس الحكومة باقٍ في موقعه وتموضعه الذي اختاره بموجب التسوية الرئاسية، لاعتباراتٍ كثيرة يحتّمها أولاً تمسّكه بالعقل لا العاطفة، خصوصاً أنّه مقتنع بأنّ فرط التسوية الرئاسية لن يذهب بالبلد فحسب إلى المجهول، بل سيضعه في موقفٍ حرجٍ على المستوى الشخصيّ أيضاً، في ظلّ علاقته المتأرجحة مع السعودية، وما يؤمّنه موقعه كرئيس حكومة له من "حصانة" يبدو أنّه لا يزال بأمسّ الحاجة إليها في هذا الوقت.

وفي هذا السياق، لا يتردّد الكثيرون من المحسوبين على فلك الثامن من آذار في الإقرار بأنّ "قلب" الحريري في مكان و"عقله" في مكانٍ آخر، باعتبار أنّ الرجل شعر أكثر من مرّة في الآونة الأخيرة، وبضغطٍ معنويّ كبير من قاعدته الشعبية، بـ"الحنين" إلى العودة إلى تحالف "14 آذار"، خصوصاً في ضوء تقاربه في الموقف مع رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في أعقاب حادثة قبرشمون الشهيرة، والتي عطّلت فعلياً مجلس الوزراء.

ولكنّه في مقابل هذا الشعور الوجداني، لا يزال مدركاً أنّ "مصلحته" تقتضي بقاءه إلى جانب "التيار الوطني الحر"، وتحمّل كلّ تبعات ذلك، خصوصاً في العلاقة مع بيئته الحاضنة غير الراضية عن تصرفات وزير الخارجية جبران باسيل تجاهه، والتي كان آخرها تعطيل جلسة مجلس الوزراء، وإن وُجِد مَخرَجٌ للموضوع لم يبدُ مقنِعاً لأيّ من أصحاب القرار. وبالتالي، تعتبر هذه الأوساط أنّ الحريري الذي تجاوز الكثير من المطبّات في الآونة الأخيرة، مستعدٌ لتجاوز المزيد منها للحفاظ على "التسوية" التي يعتبرها "حبل النجاة"، وأنّ كلّ الحراك الحاصل اليوم لا يتعدّى خط محاولة "تحسين الشروط" إن جاز التعبير، منعاً لاستفراده، علماً أنّ تغليبه الملفّ الاقتصاديّ على السياسيّ في كلّ تصريحاته، بل دعوته إلى وضع السياسة جانباً في هذه المرحلة، يصبّ في هذه الخانة أيضاً.

أولاً وأخيراً...

منذ إبرام التسوية الرئاسية، يعيش الحريري "صراعاً" بينه وبين نفسه، برأي كثيرين، ترتفع حدته أحياناً وتنخفض أحياناً أخرى، قوامه الحرص على "التسوية" لمصلحته الشخصية أولاً، ومصلحة البلد ثانياً، وفي الوقت نفسه التصدي لكلّ محاولات الاستئثار والاستفراد، ومنعاً لإظهاره مهزوماً أو خاضعاً، ولذلك فهو يلوم الحلفاء-الخصوم على بعض التصرّفات "المستفزّة" التي يقومون بها، والتي توحي بأنّهم لا يساعدونه في مهمّته المستعصية.

ومع أنّ الحريري لجأ في أكثر من مرّة إلى رفع الصوت مباشرةً أو مواربةً، رفعاً للعتب والحرج، واستخدم "سلاح" رؤساء الحكومات السابقين بشكلٍ أساسيّ لهذا الغرض، فإنّ الأكيد أنّ "شركاءه" في الحكم الذين لا ينفكّون عن توجيه رسائل "التمسّك" به، كما فعل أخيراً الأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصر الله نفسه، لا يبدون قلِقين من أيّ تطوّرٍ من نوع الزيارة الأخيرة، و"رسائلها" التي يضعونها في سياقٍ داخليّ يخصّ بيئة "المستقبل" أولاً، وربما أخيراً...