في جلساتٍ سابقةٍ ل​مجلس النواب​، كان رئيس ​الحكومة​ ​سعد الحريري​ يحرص على الانسحاب من القاعة العامة أثناء إلقاء رئيس حزب "الكتائب" ​سامي الجميل​ لكلمته، اعتراضاً على "الشعبوية" التي يُتَّهَم الأخير باعتمادها في خطاباته، وإن كان وجوده في المعارضة "يشرّع" له استخدام هذا "الفنّ" إلى أقصى الحدود.

لم يفعل الحريري ذلك هذه المرّة، وبقي في مكانه خلال إلقاء الجميل كلمته، ربما لأنّ العلاقة الشخصية مع الأخير تحسّنت، وتمّ تجاوز "القطيعة"، ولكن قبل ذلك، لأنّ مبدأ "المقاطعة" كان يجب أن يسري على الكثير من النواب، ممّن شاركت كتلهم السياسية في إعداد ​الموازنة​ وصياغتها، قبل أن ينبذوها ويرجموها في البرلمان.

ولعلّ نواب "​القوات اللبنانية​" يتصدّرون هذه القائمة، بدليل خروج الحريري عن طوره بعد كلام النائب ​جورج عدوان​، الذي تكرّر على لسان معظم قياديّي "القوات"، الذين يقول البعض إنّهم أرادوا "استفزاز" وزير الخارجية ​جبران باسيل​ بكلماتهم، فإذا بهم يغيظون الحريري، معيدين العلاقة معه إلى الصفر من جديد...

انفصام وأكثر؟!

قد تكون "القوات اللبنانية" أرادت، بموقفها من الموازنة، تسجيل نقاطٍ لصالحها على حساب "​التيار الوطني الحر​"، وتحديداً الوزير باسيل، في إطار الصراع المستمرّ بين الأخير ورئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​ على كلّ شيء تقريباً، استباقاً للمعركة الرئاسية المحتدمة قبل الأوان بينهما، خصوصاً أنّ تكتل "لبنان القوي" الذي يرأسه باسيل، يتعامل مع الموازنة وكأنه "أم الصبي"، ويخوض المعارك دفاعاً عنها، ولو تحت شعار "أفضل ما يمكن".

لكن، أبعد من النوايا، ثمّة علامات استفهام بالجملة تُطرَح حول سلوك "القوات" الذي ذهب البعض إلى حدّ وصفه بـ"الانفصام"، بعدما وافقت على الموازنة على طاولة ​مجلس الوزراء​، مع تحفّظ خجول إن وُجد، ثمّ انقلبت عليها عشية جلسات مناقشتها في البرلمان، انسجاماً مع الرأي "الشعبوي" السائد على ما يبدو، لمقوّمات "الإغراء" و"الجاذبية" التي يمتلكها، بما يرفع من الرصيد في مكانٍ ما، أمام الرأي العام.

وفي هذا السياق، ثمّة من يسأل عن أسباب عدم تقديم "القوات" للملاحظات التي لديها على الموازنة خلال مناقشتها الفعلية، علماً أنّ القول بأنّها فعلت ذلك ليس دقيقاً، لأنّ قياديي "القوات"، وفي مقدّمهم جعجع نفسه، كانوا يردّدون دائماً أنّ الموازنة، على رغم كلّ التحفظات، تبقى أفضل من كلّ ما سبقها من موازنات، وأنّها تتضمّن العديد من البنود الإصلاحيّة الجوهريّة. وأكثر من ذلك، يتذكّر البعض، خصوصاً في "التيار"، كيف أنّ وزراء "القوات" استنفروا عند تقديم الوزير باسيل لورقته الإصلاحية على طاولة مجلس الوزراء، باعتبار أنّ معظم بنودها سبق أن طُرِحت من جانبهم، بل تمّ الأخذ بها عملياً في الموازنة، فإذا بهم لا يجدون اليوم فيها ما يستحقّ إعطاءها فرصة.

وبين هذا وذاك، ثمّة من يربط بين موقف "القوات" من الموازنة، وسجالها الأخير مع رئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل، بمعنى أنّ "القوات" كما أنّها تصارع الوزير باسيل على "مغانم" السلطة، وتسعى للتصدّي لاستفراده واستئثاره، تريد أن تستفيد أيضاً من مساحة المعارضة، وعدم ترك "الكتائبيين" يسرحون ويمرحون فيها بمفردهم، خصوصاً أنّها تدرك أنّ الجانبين يتقاسمان "الصحن الشعبيّ" نفسه، الذي قد ينساق خلف شعارات المعارضة أكثر بكثير من تلك التي تعتمدها السلطة، ولو برّرتها ظروف البلاد الاقتصادية الصعبة، بل الحسّاسة إلى أقصى الحدود.

الحريري مستاء

لا شكّ أنّ "القوات" انطلقت في موقفها المُبرَم من الموازنة من مصلحتها البعيدة المدى أولاً وأخيراً، في ضوء رغبتها في تكريس توازنٍ ما بين وجودها في الحكومة، لما يمكن أن تقدّمه لها من مقوّمات تفيدها في معاركها المستقبليّة، وما بين التغريد على الوتر الذي يرضي الجمهور العام، ولا سيما ذلك المناوئ لـ "التيار الوطني الحر"، والذي لا يبدو مقتنعاً بمفردات "الشراكة" و"الوحدة الوطنية" وما شابههما.

لكن ما لا شكّ فيه أيضاً أنّه، وحتى لو كان من حقّ نواب "القوات" أن يعارضوا موازنة أعدّتها حكومة لديهم ممثلون فيها، عملاً باستقلالية السلطة التشريعية عن التنفيذية، بشهادة رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ نفسه، فإنّ "استياء" رئيس الحكومة سعد الحريري من الخطوة "القواتية" لم يكن خافياً على أحد، وهو عبّر عنه جهاراً وصراحةً في أكثر من محطة، بل إنّه وضعها في مضمارٍ واحدٍ مع استيائه من عضو "​اللقاء التشاوري​" النائب ​فيصل كرامي​ مثلاً، الذي غرّد ضدّ الموازنة التي لم يكن ممثل "اللقاء" في الحكومة الوزير ​حسن مراد​ تحفّظ على أيّ من بنودها.

ولعلّ أكثر ما أغاظ الحريري، أكثر من كون الخطوة "القواتية" جاءت بعد أيام على "ترطيب" الأجواء بين الجانبين من خلال اللقاء الذي جمعه مع جعجع، أنّ التبريرات "الشعبوية" التي أعطاها "القواتيون" وغيرهم لرفض الموازنة، لا يمكن أن تكون مقنعة، إذا ما كان لدى الكتل الممثلة في الحكومة "الجدية" المطلوبة لمواجهة التحديات، علماً أنّ هذه التبريرات كان يمكن أن يستخدمها شخصياً، متجاوزاً مثلهم خطورة الأوضاع التي يمرّ بها البلد، وعندها تطير الموازنة، ومعها كلّ الإصلاحات الموعودة، وصولاً إلى الانهيار التام الذي لا تكفّ "القوات" تحديداً عن التحذير منه.

من هنا، يسأل الحريري كيف أنّ "القوات" التي تصرّ على الحديث عن تعطيل جلسات مجلس الوزراء، غامزةً من قناة "التيار الوطني الحر"، بما يحرجه شخصياً بعد المَخرَج الذي تمّ التوصّل إليه وتحمّل مسؤوليته شخصياً، ترضى بأن تكسر الحدّ الأدنى من "التضامن الوزاري" المطلوب، كرمى لعيون نقاطٍ تُضاف إلى رصيدها هنا أو هناك، سعياً لاستفادة سياسية ليس إلا، بخلاف ما يدعو إليه باستمرار في تصريحاته الأخيرة، من تغليب الواقعين الاقتصادي والاجتماعي على ما عداهما، إنقاذاً للبلد أولاً وأخيراً.

الصدام أولاً!

صحيحٌ أنّ موقف "القوات" من الموازنة أعاد إحياء سجالها شبه الدائم مع "التيار الوطني الحر"، منذ تأكد طرفي "تفاهم ​معراب​" بأنّ زمن الأخير ولّى إلى غير رجعة، إلا أنّ الصحيح أيضاً أنّ لهذا الموقف تبعاته أيضاً على صعيد العلاقة مع رئيس الحكومة.

ولعلّ الحريري الذي كان من أشدّ المتمسّكين بتركيبة "الوحدة الوطنية" لحكومته، بعيداً عن مبدأ "الصدام"، يسأل نفسه اليوم عمّا إذا كان على حقّ، خصوصاً أنّ "الصدام" هو السائد، بل إنّ حكومته باتت شبه مشلولة بسبب تعنّت هذا الفريق، واستفراد ذاك.

يدرك الحريري أنّ لـ "القوات" حساباتها الخاصة، في ضوء خصومتها مع "التيار الوطني الحر"، ولكنّه يدرك أكثر أنّ حكومة "إلى العمل" لا يمكن أن تسير وفق عقارب هذه الحسابات، في ضوء واقعٍ اقتصاديّ لم يبقَ أحدٌ في البلد إلا وحذّر منه، وإن كان ذلك نظرياً وفرضياً فقط...