ما يلفت في مناقشات الموازنة والمحاولة اليائسة للخروج بموازنة إنقاذية هو غياب الرؤية الحقيقية لبناء اقتصاد منتج، وبالتالي ما زلنا مقيّدين بالخطوات ذاتها للخروج ببضعة موارد اضافية، نتيجتها إبقاء الاقتصاد مرتهناً ومكبّلاً وعاجزاً عن النمو وتوفير فرص حقيقية لتوسيع الإنتاج وإيجاد اعمال منتجة اضافية.

السؤال: بعد الحالة السوداوية التي عكسها النواب في مداخلاتهم، لماذا وصلنا الى هذه الحال؟ الجواب واضح: لأننا رفضنا الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة واعتبرناها هامشية. لم ننتبه الى صورة لبنان على الساحة التنافسية العالمية، ونتجاهل يومياً انّ الإجراءات في لبنان اوصلتنا الى حال من الاهتراء، وأبعدت كل المستثمرين. تكمن المشكلة في الإجراءات اليومية التي وصل حجم الرشى فيها إلى أرقام مخيفة، لا يجوز تجاهلها وتجاهل كلفتها المباشرة وغير المباشرة، المتمثّلة في إهدار الوقت والطاقات وزيادة التكاليف الاقتصادية ورفع الأسعار وضرب القدرات التنافسية، والأمثلة عديدة:

- لا يمكن الاستيراد والتصدير في لبنان من دون «حلوينة» مع التخمين الاستنسابي، كله على عينك يا تاجر، وبالطبع تأخير في الوقت، وتكاليف متصاعدة.

- يتعرّض طالب أي رخصة في لبنان للابتزاز من رخصة «فان» الى رخصة بناء وغيرها. والعلّة تكمن في الآليات المعقّدة والطويلة، ما يجعل مستحيلاً الاستغناء عن معقّبي المعاملات. مثلاً على من يرغب في توزيع البضائع أن يخضع لعملية تسجيل «الفان»، وبعدها يستحصل على رخصة نقل (حسب المحافظات) ثمّ على رخصة لوضع اسم الشركة على «الفان»، وهذه تتطلّب رخصة من ​الأمن الداخلي​، وتعهّداً عند كاتب العدل، وكتاباً من ​وزارة الاقتصاد​... إنّ تحقيق ذلك يتطلب أياماً عدة من الوقت المهدور، علماً أنّ رخص النقل غير ضرورية، لأنّه بمجرد أن تُسجّل آلية نقل لمؤسسة معينة تصبح رخصة النقل تحصيلاً حاصلاً..

- إنّ رسم تسجيل السيارة أو الآلية على أساس السعر أو حجم المحرّك جعله بمثابة ضريبة جمركية جديدة مستترة وغير فعّالة، وتكلّف جبايتها أكثر بكثير من جباية الرسم الجمركي، وهي خاضعة للاستنسابية، وخاصةً على السيارت المستعملة.

- اختُرعت عملية تسجيل العقارات ولجان التخمين لمساعدة الموظف على الاستنساب، وهذا سيجعل ضريبة الأرباح على العقارات، اذا أُقرّت، غير دقيقة لأنّها سترتبط بعمليات التخمين. وتُقدّر خسارة الخزينة من عمليات التخمين بمئات الملايين من الدولارات.

- حال المعاناة اليومية في صندوق الضمان أصعب من أن توصف: التأخير في الدفع، الساعات التي يقضيها المواطن لإنجاز معاملة ما، ويُفرض على كل مستثمر او صاحب عمل ان يُسجّل عماله الأجانب في ​الضمان الاجتماعي​ من دون ان يستفيدوا حتى من خدمات الصندوق.

كل ذلك وغيره يجعل لبنان بلداً غير صديق للمستثمر، باعتراف ​البنك الدولي​. إذ صدرت أخيراً تقارير «ممارسة أنشطة الاعمال» للعام 2019 التي تقيس الأنظمة التي تؤثر في 11 مجالاً من مجالات حياة الأعمال التجارية. وشملت 10 من هذه المجالات في ترتيب سهولة ممارسة الأعمال التجارية لهذا العام: بدء النشاط التجاري، استخراج تراخيص البناء، الحصول على ​الكهرباء​، تسجيل الملكية، الحصول على الائتمان، حماية المستثمرين الأقلية، دفع ​الضرائب​، التجارة عبر الحدود، إنفاذ العقود، وتسوية حالات الإعسار.

فقد سجّل لبنان المرتبة 146 في مؤشر «سهولة بدء الأعمال» مقارنة بالمرتبة 133 في تقرير العام الماضي، و139 مطلع عام 2017. أما عدد الأيام التي تتطلبها عملية تأسيس عمل جديد، فتصل إلى 15 يوماً، بكلفة تصل إلى 30 في المئة من متوسط الدخل الفردي السنوي. وفي ما يتعلق بالحصول على تراخيص البناء، سجّل لبنان المرتبة 170 بعدد أيام يصل إلى 277 يوماً، متراجعاً بذلك من المرتبة 142 بداية العام الماضي، إلى 135 نهايته. وفي مؤشر الحصول على الكهرباء، حلّ لبنان في المرتبة 124 متأخراً مرتبة واحدة عن تقرير العام الماضي، ومرتبتين عن عام 2016، في حين وصلت كلفة الحصول على الكهرباء 119.4 في المئة من متوسط الدخل الفردي السنوي.

فاذا قارنا مثلاً اجراء الحصول على رخصة بناء في لبنان بالحصول عليها في الامارات العربية المتحدة، نرى اننا بعيدون آلاف السنين الضوئية عن بناء دولة منتجة تجذب الاستثمارات. ففي لبنان ربطنا رخصة البناء بموافقة ​نقابة المهندسين​، مثلاً إرسال الملف إلى نقابة المهندسين للحصول على الموافقة ودفع الرسوم المتوجبة (حاليا بمعدل 1500 ليرة أي ما يعادل دولارا واحداً عن كل متر مربع للمساحات ما دون الـ3000 متر مربع، وتصبح تصاعدية مع زيادة المساحة لتصل الى 4$ للمساحات الأكبر، وبعد موافقة نقابة المهندسين يؤخذ الملف إلى ​التنظيم المدني​ للكشف والموافقة وإصدار كشف فني يتضمن الرسوم المتوجب دفعها لدى ​البلدية​، وبعدها تُدفع 250 ألف ليرة لبنانية عن كل طبقة، ثم ينتقل الملف إلى البلدية المعنية لدفع الرسوم والحصول على رخصة البناء. عملية متعبة تستمر 277 يوماً بحسب البنك الدولي.

الاستحصال على رخصة بناء في لبنان تُعتبر من الاكثر استنزافاً للوقت والجهد، والاغلى رسوماً. ولا بدّ من الاشارة الى نقطة أساسية، وهي تكبيد المستثمر والمواطن ضرائب ورسوم لمصلحة صندوق تقاعد نقابة المهندسين، وهذه مخالفة اساسية تعارض مع مبدأ شمولية الموازنة، اذ انه يُمنع تخصيص اي رسم، بل يجب ان تذهب كلها الى خزينة الدولة، والدولة تدعم ما ترتئيه مناسباً. ومن جهة أخرى، بدل منح حوافز للصناعيين في موضوع رخص البناء، نكبّدهم مبالغ كبيرة بدءاً بالـ4$ لكل متر لنقابة المهندسين، بالاضافة الى الرسوم البلدية، وهي مبالغ كبيرة، حيث يجب ان يكون هناك استثناء او اعفاء من هذا الرسم لأنّ المساحات الصناعية كبيرة حتماً، وهو يشكّل عائقاً اضافياً امام اي مستثمر او صناعي. فمثلاً صناعي صاحب شركة للمياه المعدنية توقف عن توسيع معمله لأنّ الرخصة ستكلفه مئات آلاف الدولارات، إذ أنّ مساحة 180 الف متر مربع ستكلّف ما يقارب المليون دولار، علماً انّ صناعة بهذا الحجم توفّر مئات فرص العمل. وهذا يدل الى انعدام الرؤية، ويؤدي الى هروب المستثمر. فالمفروض لبلد تنعدم فيه الاستثمارات ​الجديدة​ ان يوفّر حوافز لإبقاء الصناعات والمشاريع ولاستقطاب مستثمرين وايجاد فرص عمل منتجة.

اما دولة ​الإمارات​، فقفزت 10 مراتب في تقرير «ممارسة أنشطة الأعمال 2019»، لتحقق المركز الـ11 عالمياً، فيما حافظت على تقدّمها على كل دول المنطقة العربية، للعام السادس على التوالي. وجعلت الإمارات تسجيل الممتلكات أمرًا أسهل من خلال زيادة شفافية نظام إدارة الأراضي، حيث قامت دائرة الأراضي والأملاك في إمارة دبي بتحديث موقعها الإلكتروني وتوفير خدمة إمكانية الوصول المجاني إلى كل المستثمرين الراغبين في التحقق من الرهونات على الممتلكات والتحقق من صحة شهادات الملكية.

كما تمّ توحيد عملية التقديم للاستحصال على رخصة بناء عبر النافذة الموحّدة بدلاً من التقديم لكل دائرة على حدة، حيث تمّ العمل في «نظام دبي لتراخيص البناء - Dubai BPS» ويشمل تقليل الإجراءات والمدة الزمنية لتقديم الخدمة والنظام الإلكتروني الشامل والموحّد، والذي يهدف إلى تقديم جميع الخدمات المرتبطة بعملية الترخيص ورحلة البناء، من بداية الحصول على رخصة البناء إلى مرحلة توصيل الخدمات والحصول على شهادة الإنجاز بشاشة واحدة. وتمّ تقدير الخطوات اللازمة لإنجاز مبنى، بما فيها رخصة البناء والكهرباء بـ45 يوماً، علماً انّ الموافقة على رخصة البناء تأتي بعد 3 ايام عبر موقع بلدية دبي الالكتروني.

هذه نبذة عمّا نقوم به وما تقوم به الدول الطامحة الى تحويل بلدانها الى واحة استثمارية. في هذه التفاصيل تحديداً يكمن الفارق. وفي هذه التفاصيل تضيع فرص ثمينة، المستثمر يقرأ الارقام ويقرأ هذه التقارير. وتراجعنا في هذه التقارير الذي يمرّ مرور الكرام لدى ​الحكومة​ هو أسوأ ضربة لمستقبلنا الاستثماري المنتج.