أكثر من ثلاثة أسابيع على حادثة ​قبرشمون​، ولا تزال الحكومة "رهينة" معالجتها السياسية، وسط تعنّت وتصلّب كلّ فريقٍ على موقفه خصوصاً من إحالة القضيّة إلى المجلس العدلي، بعد رفض كلّ المَخارج والطروحات "التسووية"، على رغم إعلان الجميع "الانفتاح" على الوساطة التي يقودها المدير العام للأمن العام ​اللواء عباس إبراهيم​.

وفي وقتٍ لم توحِ المؤشرات بقرب "الفرج" على هذا الصعيد، مع عدم توجيه رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ لأيّ دعوة لجلسةٍ لمجلس الوزراء هذا الأسبوع أيضاً، كان لافتاً إعلان كتلة "المستقبل" بعد اجتماعها الأسبوعي، أنّ "المسؤولية الوطنية والدستورية تقتضي مبادرة رئاسة مجلس الوزراء لحسم الأمر واتخاذ كل ما من شأنه تحريك عجلة العمل الحكومي".

بطبيعة الحال، بدا هذا الإعلان "المستقبليّ"، وكأنّه إيذان بـ"حسم" حان وقته، بعدما تمادى البعض في المماطلة من دون أيّ اعتبارٍ للنتائج، فهل يفعلها رئيس الحكومة فعلاً؟ وما هي الخيارات المُتاحة لديه؟ وهل يكون الاعتكاف، أو حتى الاستقالة، أحدها؟!.

غياب المنطق!

في البيان الذي أصدرته بعد اجتماعها الدوري، أسفت كتلة "المستقبل" لبعض المواقف "التي تجاوزت حدود المنطق والتهدئة، لتصب في خانة توجيه الرسائل الخاطئة والتصعيد غير المبرر الذي يخالف كل الوقائع والجهود الجارية لرأب الصدع"، رافضةً في الوقت نفسه "محاولة التصويب على الحريري في هذا المجال والتغريد على وتر زجّه في النزاع القائم".

لعلّ الكتلة اختصرت بهذا الكلام موقف رئيس الحكومة الذي بات يتساءل علناً عن "مغزى" السلبيّة التي يصرّ عليها البعض في الحكومة في التعامل مع حادثة قبرشمون، بل التعنّت والتصلّب في الدائرة نفسها منذ اليوم الأول، على رغم كلّ المحاولات التي بذلها على المستوى الشخصي لتقريب وجهات النظر، وتجاوزه ما اعتُبِر استهدافاً مباشراً لموقعه، تفادياً لأيّ سيناريو من شأنه تفجير الحكومة من الداخل.

إلا أنّ الحريري في المقابل لم يلمس، كما يقول بعض المقرّبين منه وأعضاء كتلته النيابية، أيّ مرونة أو ليونة لدى المعنيّين بالاشتباك، بدليل ما سُرّب مثلاً عن اللقاء الذي جمعه هذا الأسبوع مع وزير الدولة لشؤون النازحين ​صالح الغريب​، والذي وُصِف بـ"السلبي"، بعدما كانت أجواء "إيجابيّة" سبقته، وأوحت بأنّ الحلّ الحكوميّ وُضِع على السكّة، ليخرج الغريب، وبعده رئيس "​الحزب الديمقراطي اللبناني​" النائب ​طلال أرسلان​، ويجدّدا تمسّكهما بشرطهما إحالة القضية إلى المجلس العدلي، من دون أيّ تعديل.

وبمُعزَلٍ عن موقف الحريري الشخصي من الموضوع، والذي سبق أن أعلنه بوضوح، وإن حاول التموضع في "الوسط" بشكلٍ أو بآخر، فإنّ أكثر ما يزعجه في المواقف التي تصدر من هنا وهناك، استشعاره بأنّ المطلوب فعلاً كسر فريقٍ معيّن، بعيداً عن قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" المعتادة، وهو ما أوحى به أصلاً تمدّد السجال السياسي ليشمل قوى ومكوّنات حكوميّة أخرى، ومن دون أيّ اعتبارٍ لمصلحة البلد العُليا التي تتطلب عقد جلسة للحكومة اليوم قبل الغد، كما يؤكد الفريقان على حدّ سواء، في مفارقةٍ مثيرة للانتباه.

إلى الحسم؟!

عموماً، يمكن القول إنّ بيان كتلة "المستقبل" شكّل "جرس إنذار" أراد الحريري قرعه، لأنّه يدرك أنّ المماطلة لم تعد ترفاً أو خياراً في ظلّ الاستحقاقات الداهمة التي تواجه الحكومة، وبالتالي فهو يدرس جدياً مسألة الدعوة إلى جلسةٍ لمجلس الوزراء خلال الساعات المقبلة، بمعزلٍ عن مساعي الحلّ المبذولة،علماً أنّ ما وُصِف بالقرار "الحكيم" مع إرجاء جلسة مجلس الوزراء بعد أقلّ من 48 ساعة على حادثة البساتين، لم يعد كذلك اليوم، في ظلّ المراوحة القاتلة التي تتخبّط حكومة "إلى العمل" في فلكها، من دون أن تحقّق شيئاً من تعهّداتها ووعودها.

ولعلّ ما يعزّز هذه النظرية هو حجم الملفات المتراكمة التي يجدر بالحكومة إيلاءها الأولوية القصوى، بدل وضعها على الهامش، بانتظار موقفٍ سياسيّ من هنا أو هناك، وعلى رأسها ملف التعيينات التي تنتظر، في وقتٍ تزداد الشواغر في بعض المراكز الحسّاسة، وخصوصاً في القضاء. وإلى جانب التعيينات، ملفات أخرى تنتظر اجتماع الحكومة، على غرار أزمة النفايات التي أطلّت برأسها، فضلاً عن الأزمة التي نتجت عن خطة وزارة العمل على العلاقات اللبنانية-الفلسطينية، من دون أن ننسى متطلبات مؤتمر "سيدر"، بالإضافة إلىضرورة بدء البحث بموازنة 2020، وإقرار قطع الحساب، وكلّها أمورٌ لا يمكن حلّها باجتماعات وزارية مصغّرة لا تفي بالغرض.

ولهذه الأسباب مجتمعةً، لا يتردّد الحريري في إبلاغ المعنيّين بأنّ كلّ الخيارات مطروحة أمامه على الطاولة، حتى أنّ بعض المقرّبين منه قالوا إنّ خيار الاستقالة أو الاعتكاف ليس مستبعَداً في قاموس الحريري لمواجهة استمرار البعض بالتصعيد، وإقفال الأبواب أمام كل قنوات الحلّ التي فُتِحت، وإن كان خياره الأول يبقى الدعوة إلى جلسةٍ حكوميّةٍ بمعزلٍ عن المستجدّات السياسية، على أن يتحمّل عندها كلّ طرف مسؤولياته. إلا أنّ المتابعين لا يزالون يضعون الطروحات التصعيدية في خانة "الضغط" لا أكثر ولا أقلّ، بعيداً من السيناريوات القابلة للتطبيق، وذلك لاعتباراتٍ وحساباتٍ باتت معروفة للقاصي والداني، وأولها أنّ الحريري المتمسّك بالتسوية الرئاسية حتى الرمق الأخير، والذي تجاوز الكثير من المطبّات والألغام في سبيل الحفاظ عليها، يدرك أنّ تنحّيه عن رئاسة الحكومة لن يكون في مصلحته، بأيّ شكلٍ من الأشكال، ولو كثُر عدد من يحرّضونه على اتخاذ هذه الخطوة، من قلب بيته "المستقبليّ" قبل غيرهم.

فائض قوة؟!

قد يكون غياب المنطق الذي شكت منه كتلة "المستقبل" في بيانها الأخير، من أكثر السمات رواجاً في السياسة اللبنانية بصورةٍ عامّة، وفي الآونة الأخيرة بصورةٍ خاصة.

هكذا، يغيب المنطق حين تعتكف الحكومة اللبنانية عن الاجتماع لثلاثة أسابيع متتالية، بسبب حادثة أمنية هدّدت الأمن القومي، فإذا بها تهدّد عملياً الأمن الحكوميّ أولاً وأخيراً، وما يصطلح على تسميته بالتضامن الوزاري.

ويغيب المنطق أيضاً حين يحيّد رئيس الحكومة نفسه عن السياسة وشجونها، فإذا بها تحاصره من كلّ حدبٍ وصوب، من دون أن "يمون" على "شركائه" في الحكم، الذين يشعرون ربما بـ"فائض قوة" لإدراكهم أنّ الحريري باقٍ في موقعه، مهما هدّد وتوعّد ورفع الصوت...