بعد سنوات من المناكفات والاستفزازات المتبادلة التي لا تنتهي، طرأ تحوّل نوعيّ على خط العلاقة بين "​التيار الوطني الحر​" و"​حركة أمل​" في الفترة الأخيرة، تمثّل بالحديث المكثَّف عن "تفاهمٍ" في طور الإعداد والصياغة بين الجانبين، قيل إنّه بلغ مراحله النهائية على أن يبصر النور في القريب العاجل.

وإذا كان الحديث عن هذا التفاهم تزامن مع "​الهدنة​" السائدة بين الفريقين منذ فترةٍ ليست بقصيرة، على رغم استمرار جماهيرهما بالتصويب على بعضهما بعضاً في أكثر من محطّة، فإنّ طريقه لا تبدو مفروشة بالورود، بعد بروز "لغم" جديد على خطّ العلاقة في ​الساعات​ الماضية، متمثّلاً بالبند المضاف إلى ​الموازنة​، حول حقوق الناجحين في ​مجلس الخدمة المدنية​.

وفي وقتٍ بدأت تُرسَم علامات استفهام حول السيناريوهات المحتملة لمعالجة الإشكاليّة المستجدّة، ثمّة من قرأ تداعياتٍ حتميّةً لها على خط العلاقة بين "أمل" و"التيار"، من شأنها أن تعيدها إلى مصاف "سوء التفاهم" المعتاد، بديلاً عن "التفاهم" المنتظر، وهو ما سبق أن حصل سابقاً أصلاً...

قراءة متباينة

لا شكّ أنّ القراءة بين "التيار" و"أمل" تختلف حدّ التناقض في ما يتعلق بمسألة الناجحين في مجلس الخدمة المدنيّة منذ فترة طويلة، ربطاً بمسألة "الميثاقية" المثيرة للجدل، وسبق أن دخل الجانبان في معارك كلامية على خطّها في أكثر من مناسبة، إلا أنّ إضافتها إلى الموازنة من شأنها أن تشكّل مادة سجالية جديدة، برزت من خلال حديث "التيار" عن أنّ الأمر مجرد "خطأ مادي"، ما نفته أوساط "أمل" بشدّة.

فبمعزلٍ عن الخلاف الجذري في مقاربة الفريقين لمسألة الناجحين في مجلس الخدمة المدنية، شأنها شأن الكثير من القضايا التي تفرّق الجانبيْن اللذين لطالما شكوا غياب "الكيمياء" بينهما، يعتبر "التيار الوطني الحر" أنّه تعرّض لـ"خديعة" في جلسات الهيئة العامة ل​مجلس النواب​، عبر تضمين الموازنة بنداً خاصاً بهذه المسألة، يؤكّد نواب "التيّار" أنّ توافقاً تمّ مع رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ على شطبه، بدليل عدم حصول تصويتٍ حوله، على رغم كونه خلافياً.

ولذلك، غلّب "التيار" فكرة "الخطأ المادّي" في تصريحاته حول الموضوع، في محاولةٍ للتخفيف قدر الإمكان من الضرر الناتج عن الخطأ المُرتَكَب، علماً أنّ "التيار" يعتبر أنّ مثل هذا البند لا يشكّل مخالفة للانتظام الإداري العام فحسب، ولا لمبدأ فصل السلطات المعمول به في ​لبنان​، خصوصاً لجهة مصادرة مجلس النواب لصلاحياتٍ منوطة بالوزراء، إلا أنّه يرى أكثر من ذلك، أنّه ينطوي على مخالفةٍ للدستور والقانون، الذي ينصّ صراحةً على فقدان الناجحين لوظائفهم في حال مرّت سنتان على نجاحهم من دون صدور مراسيم تطبيقية عن الجهات المختصّة تتيح لهم مباشرة العمل.

لا للأمر الواقع!

في المقابل، تصرّ حركة "أمل" على أنّ قضية الناجحين في مجلس الخدمة المدنية قضية حيويّة وأساسيّة، وليست ترفاً يمكن أن يخضع لمزاجية التفاهم مع هذا الطرف أو ذاك، وهي ترفض فرضيّة "الخطأ المادّي" التي طرحها "التيّار" من اللحظة الأولى، في محاولةٍ لاحتواء ما حصل، بل إنّ أوساطها تؤكد أنّ البند كان ليمرّ بطبيعة الحال لو عُرِض على التصويت، خصوصاً أنّ جبهة نيابية عريضة في صفّ الناجحين، تتألف من "أمل" و"​حزب الله​" و"​تيار المستقبل​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، بل إنّ هناك انقساماً حتى في داخل "التيار" حوله، بدليل صمت العديد من نواب "التيار" عند ​النقاش​ بهذه المسألة.

وإذا كان المحسوبون على "أمل" يستغربون أصلاً وجود اعتراضٍ على فقرة لا تقدّم ولا تؤخّر، ولا تنصّ سوى على حقّ ناجحين بالحصول على نتيجة نجاحهم، علماً أنّهم لا يتحمّلون مسؤولية المماطلة الحاصلة، فإنّ الأكيد أنّ هذا الموقف ينطلق من كون جزءٍ كبيرٍ من بيئتها الحاضنة وجمهورها من جملة هؤلاء الناجحين الذين يعتبرون أنّهم تعرّضوا لـ"مظلوميّة"، بسبب إصرار وزير الخارجية ​جبران باسيل​ على عدم تعيينهم في وظائفهم نظراً لعدم وجود "توازن" في عدد الناجحين من مختلف ​الطوائف​، على رغم أنّ القانون لا ينصّ أصلاً على قاعدة "الستة وستة مكرّر" في الوظائف دون الفئة الأولى، كما أنّ عدد من تقدّموا من المسيحيين مثلاً إلى هذه الوظائف كان زهيداً من الأصل.

وفي حين يفصل "التيار" بين تفاهمه مع "أمل"، ومسألة المادة المضافة إلى الموازنة، فإنّ المقرّبين منه يشدّدون على أنّه يرفض "ابتزازه" من هذا الباب أو غيره للقبول بفرض "أمر واقع" عليه، لا يمكنه قبوله بأيّ شكلٍ من الأشكال، وهو ما دفعه إلى حدّ رفع الصوت وصولاً إلى التلويح بإمكان إسقاط الموازنة عن بكرة أبيها، في وقتٍ بدأ الحديث عن "مَخارِج" محتملة للأزمة ​الجديدة​، وإن كانت بمعظمها تتطلّب التوافق العام، علماً أنّ ​رئيس الجمهورية​ يستطيع ردّ الموازنة إلى البرلمان خلال مهلة شهر، إلا أنّ مثل هذه الخطوة يفترض أن تخضع للتوافق، حتى لا يعيد المجلس إقرارها كما هي من جديد.

افتراضي ونظري...

ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها الحديث عن "تفاهم" مرتقب بين "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل"، قبل أن يُجمَّد بسبب خلافٍ يطفو على السطح بين فريقيْن، يصرّ كلّ من يعرفهما على أنّ لا شيء يجمعهما سوى التحالف المشترك مع "حزب الله".

لكن، مع ذلك، قد تكون مفارقة مثيرة للانتباه، أن تُخلَق في هذا التوقيت بالذات، إشكاليّة غير مبرَّرة برأي كثيرين، مثل تلك المرتبطة بملف الناجحين في الخدمة المدنية، وهو ملفّ يدرك "التيار" و"أمل" على حدّ سواء، أنّ إضافته إلى الموازنة "نظرياً"، لن يقدّم أو يؤخّر شيئاً في مسار الأمور.

لكنّ ما يدركه جميع اللبنانيين أيضاً، هو أنّ التفاهم المرتقب بين "أمل" و"التيار"، سواء أكمل طريقه أو جُمّد، لن يكون أكثر من تفاهم "افتراضي" و"نظري"، شأنه شأن الكثير من التفاهمات التي سقطت تلقائياً، بعدما تمّ تصويرها وكأنّها "إنجاز تاريخيّ"، بل أكثر...