...هل يمكن لبلدٍ في العالم الحكم خارج دستوره؟

مستحيل، لكنّه حاصل في لبنان منذ 1989،حيث بدا دستور جمهوريّة الطائف فاقداً لمرجعياته وإحترام نصوصه بوصفه"الكتاب الوطني" الذي أنقذ اللبنانيين من جروحهم الباقية طريّة في النفوس والحكم. المعضلة الكبيرة للجمهوريّة اللبنانية أنّهامسكونة بخليط من التقليديين الذين خرجوا من الحكم إلى الحرب مع أقوياء خرجوا من الحرب إلى الحكم، وها نحن نرسو في إستحقاق"الخصخصة الوطنية" NationalePrivatisation الشاملة التي تخرج لبنان من القطاع الرسمي إلى قطع غيار معروضة للبيع إلى القطاع الخاص.

أذكّر، بأمرٍ فائق الأهميّة، بأنّ مجلس الوزراء وضع، للمرّة الأولى،الخصخصة على جدول أعماله في بند "المجلس الأعلى للخصخصة"( 1 آذار 2001)،مكرّساً إشراك القطاعَ الخاص للدولة في إدارة شؤونها. قمت بزيارة فرنسا والمغرب للإطّلاع على تجربة الخصخصة بسلبيّاتها وإيجابيّاتها بصفتي كنت عضواً لمجلس إدارة تلفزيون لبنانا لمؤسسة الرسميّة المملوكة آنذاك من القطاعين العام اللبناني والخاص الفرنسي.

وأذكّر أيضاً أنّ المجلس النيابي الذي تمّ انتخابه عام 1972 كان عددهم 99 نائباً إستمرّ عشرين عاماً لتعذر إجراء الانتخابات، بسبب الحروب، ممدّداً لنفسه 8 مرّات بحيث لم يبق منهم على قيد الحياة سوى 65 نائباً في 16 تموز 1992 عندما حلّ نفسه لإجراء انتخابات برلمانية جديدة، على الرغم من أن ولايته كانت تنتهي عام 1994.

وهنا فاصلة مفارقات هائلة تربط بين الماضي والحاضر:

يدفع لبنان رواتب تقاعدية لعائلات هؤلاء البرلمانيين منذ الأزل، ويفرض الضرائب على رواتب المتقاعدين من أساتذة الجامعة الوطنيّة والضبّاط والموظّفين .

ضرب هذا المجلس المعمِّر، الرقم القياسي في الحكم، في موسوعة غينيس:

إنتخب خمسة رؤساء جمهوريّة، ومنح الثقة ل11 حكومة، ووافق على اتفاقيات متناقضة: الاتفاق الثلاثي واتفاق 17 أيار واتفاق الطائف. وأنجز 665 قانوناً 30 % صادرة عنه و70% مشاريع قوانين صادرة عن السلطة التنفيذية. هذا مؤشّر صارخ

على عجز الحكومات، تماماً كما اليوم، مما اضطرّ مجلس النواب إلى سدّ الفراغ وتسيير دفة الحكم، أو ليعود من ناحية ثانية بسبب وجود حكومتين في الحرب، أو حكومات مشلولة بسبب وزرائها المتنافرين أو المقاطعين.

إن أكثرية القوانين في بلاد العالم تأتي من الحكومة إلى المجلس النيابي ليدرسها ويقرّها كما هي أو يعدّلها لكنّ ما بقي من برلمانيينا آنذاك إطّلعوا على نصوص الطائف وتشظّوا حوله، وأعرضت عنه النخب والطوائف المترسّخة في حكم لبنان مما ضاعف في حدّة الفرقة والريبة الموروثة. وصرنا ندور في الفراغات المتوالية نبحث عن دستور جديد.

كانت السلطات أو المرجعيات قائمة شكلاً، لكنّها تبدو اليوم لا شكلّ وطنيّاً لها. فقدت الرونق والشكل والثقة وباتت محكومة بالمحاصصة والفساد والإستقواء بموتوري الأحزاب الذين يهدّدون المواطنين الضعفاء المنضوين في حزب لبنان، في زمن بات فهمهم للمتغيرات الكبرى الحاصلة في العالم أمراً متعذراً أو صعباً، وكذلك فهمهم أو ترجمة تقصيرهم وإستبدادهم الديمقراطي في مواقف مستجدة في السياسة الداخلية تعيد للسياسة سلطاتها إنْ لم تكن قادرةً على استعادة سلطات وطنها.

تنصاع الأحزاب القابضة على لبنان واللبنانيين لصالح المراهنات على دول الخارج من روسيا وسوريا والعراق وإيران والسعودية ومصر إلى فرنسا وأميركا والمنظّمات الدولية والمستشارين المستوردين والسفراء والقناصل، ويعوّضون إنصياعاتهم بالعبث بمستقبل المواطنين ولبنان بدلاً من الخروج من التخمة والسرقات والجشع للتمرّس بمصيرلبنان ومستقبله والهرولة نحو تجليس إلتواءاتهم العجيبة وتنظيف تواريخهم الثقيلة وكيدياتهم الغريبة النادرة فوق سطح الأرض.

كان المسيحيون، قبل الطائف مثلاً، الرقم الصعب في الحكم لأن الإرادة الدولية شاءت الاستفادة منهم في إطار المسألة الشرقية لمصالحها ولربّما يساورهم الحنين ويقتلهم في العودة المرضية إلى هذا الزمان من دون الإنتباه إلى كونهم صاروا ورقة بين أوراق أخرى لا قيمة لها كبرى في رسم المستقبل.

لماذا؟

لأنّهم كانوا واجهة الغرب وأصبحت المنطقة كلها في قبضة الغرب والشرق لا فرق بينهما في تغامز الدول الكبرى وتهامسها. تسبق المصالح والثقافات خطى الدول على طريق الزيت والغاز منذ أن إلتمست الدول والشعوب بالقوة وبدبلوماسيّاتها في تعبيد الطرق. لم يعد هناك من شرق بالمعنى العربي أو الإسلامي للكلمة. تفكّك المسيحيون

وانهاروا في حروب صعبة وعاشوا الإرباك السياسي والارهاق النفسي ويعيدهم التاريخ معارضين تواقين إلى إستعادة مواقعهم الضائعة في الحكم لكنّ ضمور أعدادهم وهجرة أولادهم وتعدّد أحزابهم وتنافس ممثّليهم جعلهم كغيرهم يعانون من العجز يقاتلون على كرسي الحكم وشهرته سواء أكان قوياً أم ضعيفاً. ونقيض الحكم هو بديله قد يساويه في العجز، ولو أنّ دعوات إسلامية مرتجلة سخيفة تقوى وتتصاعد تهدّد بنسف المناصفة الوطنيّة وتعمل في السلم بقوّة تتجاوز في تفسيراتها قوّة أعمالها في الحروب بكثير، لذا قد يبدو السقوط شاملاً لكلّ من لا يرى "سقطة" الجمهورية أو يبقى فيها أو يخرج منها يعاني سقوطاً أو خسارة أو عجزاً أو ندماً ما.

لبنان واقع في فجوة وطنية بلا دستور لأنّ ​الدستور​ المدفوع ثمنه عدّاً ونقداً وتنازلات وإمساكاً بالخارج بقي نصّاً بلا روح والتغيير في النصوص لا يعني أو ينعكس أبداً تغييراً في النفوس، إنّه مثل دستور الايمان، إمّا أن نكون معه أو ضدّه، ولهذا يبحث لبنان واللبنانيون عن دستورٍ جديد للخروج من المستنقعات إلى الوطن.