لا شكّ أنّ ​العالم​ يمرّ اليوم بمخاض عسير سوف ينجم عنه في النهاية نظام دولي جديد يضع حدّاً للنفاق الدولي الذي استمرأت عليه بعض الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية وأرست قواعده ثمّ بدأت مؤخراً باختيار ما يناسبها منه والتمسك به ورفض ما لا يناسبها والتنصّل منه، ولكنّ هذه العملية قد تأخذ سنوات إن لم نقل عقداً أو عقدين من الزمن. لأنّ الصورة التي ترتسم في ذهني عن عالم اليوم هي ​سفينة​ مضطربة في بحر هائج لا يعلم إلا الله مرساها، والمرعب في الأمر هو افتقار هذا العالم لقيادات تتصف بالحكمة والنظرة التاريخية الثاقبة ولجوء بعض القوى العالمية إلى أسلوب العقوبات والتهديد والوعيد دون تقدير نتائج أعمالهم على استقرار المعمورة ومستقبل أبنائها. وفي الوقت الذي يستمرّ منتصرو الحرب العالمية الثانية بالتصرف وكأنّهم انتصروا البارحة فهم يتجاهلون أنّ الشعوب في أقطاب العالم المختلفة قد راكمت درجة كبيرة من الوعي وقوة الشكيمة، وأنّها لم تعد فريسة سهلة لمظاهر قوّتهم وتهديدهم وابتزازهم، وهناك دروس مستفادة كثيرة لابدّ من التوقف عندها من أجل رؤية أفضل لعالم الغد. فمثلاً وبعد احتلال واستيطان بغيض للأرض الفلسطينية المقدسة، وممارسة أبشع أنواع القمع والهدم والتعذيب تستفيق دول أوربية لتقول إنّ هدم المنازل في ​القدس​ "سابقة خطيرة"!! "سابقة"؟ ماذا تقصدون؟، فقد عملت "​إسرائيل​" على هدم منازل الفلسطينيين وتهجيرهم من مدنهم وقراهم منذ 72 سنة في سلوك يندى له جبين التاريخ الاستعماري ل​أوروبا​، وكانت أشدّ ردود الأفعال الغربيّة هي الإدانة التي لا تحمل في طيّاتها أيّ إجراءات عقابية لأشنع الأعمال بحقّ الإنسانيّة. فهدم المنازل سلوك يعادل ​عقوبة الإعدام​ التي يتبارى الغرب في الوقوف ضدها. إنّ تهجير البشر من ديارهم أصعب من الموت ولكنّ أحداً لا يقيم وزناً لذلك. وعلى المقلب الآخر تصرّح سلطات فلسطينية أنّها ستوقف التعامل بالاتفاقات مع إسرائيل وهنا الوقفة الطويلة والجادة المطلوبة البارحة واليوم وغداً. ولكن ماذا يعني إيقاف التعامل مع اتفاق مضى عليه ست وعشرون عاماً ونيّف وجنى الاحتلال من نتائجه وثماره على المستوى الإقليمي والدولي ما جناه، فهل هذه هي أنجع الطرق أن نوقف العمل بالاتفاق بعد عقود وبعد أن استنفذ نتائجه الخصوم والأعداء أم أن نكرّس عقوداً من التفكير والبحث والتمحيص قبل أن نوقع على اتفاق؟ لقد كان واضحاً للكثيرين في العالم عشية اتفاق ​أوسلو​ أنّه اتفاق كارثي لعملية السلام القائمة وللفلسطينيين الذين يناضلون من أجل حقوقهم الأساسية والتي لم يأتِ الاتفاق على ذكرها. أودّ أن أتوقف عند هذه النقطة والعالم يعيش مخاضاً لا سابقة له في العقود الماضية من أجل التموضع الصحيح في العالم الجديد. فهل ننتظر نحن العرب وأصحاب الحقوق تشكّل العالم الجديد ثمّ نقرّر أن نقاطع أو نتواصل حين لا ينفع قرارنا في شيء، أم نكرّس اليوم الوقت والجهد والأبحاث لندرس الإشارات والمؤشرات ولنفهم مسيرة التاريخ اليوم بعمق ودراية ونجترح أفضل الأساليب للتعامل مع المسيرة ولتثبيت خطانا في المكان الصحيح، وفي الموعد السليم؟ وما هي الدروس المستفادة من واقعنا اليوم والذي ينبئنا بالثمن الذي دفعناه نتيجة رداءة أساليب سابقة، وما هي العناصر التي أغفلناها في تحركاتنا واتفاقاتنا وخطواتنا السابقة على المستوى الوطني والإقليمي والدولي؟ وإذا كان لي أن أساهم بنوع من الإجابة على هذه الاسئلة الصعبة فإني أقول إنّ أخطر ما أغفله العرب جميعاً في تاريخهم الحديث على الأقل هو عامل الزمن أولاً، وآليات العمل الصريحة والواضحة بكلّ ما تنضوي عليه من تقييم وثواب وعقاب وفرز الغث من الثمين ثانياُ، الأمر الذي لابدّ منه للسير بخطى ثابتة و​محكمة​ نحو مستقبل أفضل. ففي أيّ دراسة أو مشروع أو عمل نجد أنّ عامل الوقت مهمل أو قابل للأخذ والردّ والإطالة مع أنّ الوقت هو أثمن ما يملكه الإنسان وهو العملة النادرة التي لا نملك أبداً التصرف بها على هوانا وحسب مزاجنا لأنّ سيفها قاطع وغير قابل للمراجعة أو العودة. وإذا ما قرأنا التعليقات على أهمّ المقترحات والمشاريع في مراكز اتخاذ القرار في كلّ الدول العربيّة، فإنّنا نجد دون شكّ أنّ العبارة التي تترّدد على حيثيات المقترحات والمشاريع هي: "التريث"، ولا يعلم أحد لماذا التريث في الوقت الذي من الضروري جداً اتخاذ قرار، فهل يعني التريث ​العجز​ عن اتخاذ القرار أو عدم الجرأة أو عدم القدرة على اتخاذ القرار؟ هناك مثل ب​اللغة​ الانكليزية يقول: قرار سيء أفضل من اللاقرار. لأنّك حين تتخذ قراراً سيئاً يعني أنّك تعمل وتفكر وأنّك قادر على عكس هذا القرار نتيجة العمل والتفكير ولكن حالة عدم اتخاذ القرار هي حالة من الترهل والكسل وقد تدوم هذه الحالة وتعني استمرار الفراغ وعدم وجود قرار.

أقول هذا لأنّي أتساءل أين نحن العرب من مجمل المتغيرات في عالم اليوم؟ في الوقت الذي تتحدث ​روسيا​ عن إيجاد صيغة لضمان أمن ​الخليج​ وأنّ هذا ​الأمن​ يجب أن يكون شأن الدول الإقليمية، وفي الوقت الذي تحاول الدول الغربيّة إعادة الاستعمار الجديد للمضائق البحرية في العالم، وفي الوقت الذي تعمل فيه ​الصين​ ليل نهار لقول الكلمة الفصل في تشكّل العالم الجديد ينبري مسؤول من دولة عربيّة في ​الأمم المتحدة​ ليتحدث عن الخطر ال​إيران​ي في الوقت الذي يصرّح به وزير خارجية ​الولايات المتحدة​ بومبيو أنّه مستعد للقدوم إلى إيران للتفاوض مع ​الحكومة الإيرانية​ إذا لزم الأمر. وفي الوقت الذي يتخذّ ​الاحتلال الاسرائيلي​ البغيض إجراءات خطيرة جداً لتصفية ​القضية الفلسطينية​ يستفيق البعض على أخطار اتفاق أوسلو والاتفاقات مع هذا الكيان الظالم الغاشم. هل نستمرّ اليوم في التفكير بأخطاء الماضي أم نقفز إلى الأمام ونضع الرؤى والاستراتيجيات القادرة على التأسيس لعالم جديد يواكب المتغيرات الكبرى التي يشهدها عالم اليوم؟ هل هناك مراجعة لتاريخنا الحديث على الأقل ومصارحة حقيقية في أماكن الخطأ والصواب كي نتعلم من الدروس المستفادة ولا نكرّر أخطاءنا ونمتلك الجرأة لاجتراح أساليب جديدة ولكن مجدية لتموضع جديد في عالم الغد، وما الذي يلزمنا في هذا الإطار من أدوات؟ أول وأهمّ أداة تلزمنا هي أن نؤمن أنّه في البدء كانت الفكرة وأن نعيد إعمال العقل وأن ننصت للمفكرين والرؤيويين من أبناء هذه الأمّة وأن نعيد الاعتبار لعامل الوقت من خلال الاستخدام الكفوء له وأن نمتلك القدرة والجرأة على الإشارة إلى مكامن الخطر وتوجيه البوصلة في المسار الصحيح مهما اعترض عليه بعض الجهلة أو المخترَقين حتى وإن كانوا من المتنفذين. عالم الغد يتشكّل اليوم ونحن في غفلة عن مخاضه الحقيقي وعن عناصر تشكّله حيث التريث اليوم قاتل والوقت سيف مسلط على رقاب من لا يعرف قيمته وأهميته في صناعة الحدث.