ملفان أدخلا لبنان في حالة من الشلل في الحكم والاضطراب، وأخلّا بالاستقرار في العلاقات السياسية، وأثرا على الانتظام العام في عمل الدولة، وجعلا هذا الطرف يصرخ وذاك يحتجب وغيرهما يحجم عن ممارسة صلاحياته، والنتيجة كانت شلل في الدولة وتعطل لمصالح الناس، ولو احتكم المسؤولون اللبنانيون الى ​الدستور​ والقانون والمؤسسات المعتمدة بموجبهما لكان أمر الحلول لكلّ ما يتوالد من مشاكل سهلاً وسريعاً، وحتى لكانت معظم المشاكل بمنأى عن الظهور أصلاً. ولكن للأسف نجد أنّ معظم المسؤولين يرون أنفسهم فوق الدستور وفوق القانون وفوق المؤسسة، لا بل الأسوأ من هذا يرون في الدستور والقانون والمؤسسة مطية لنزواتهم وقيوداً يستعملونها لتقييد سواهم، أما هم فلهم الحصانة المطلقة التي على أعتابها تتوقف الدساتير وتتعطل القوانين وتشلّ المؤسسات، انها حصانتهم الطائفية التي هي فوق كلّ الحصانات وغرائزهم التي هي فوق كلّ الحقوق، فوق حقوق المواطن وفوق حقوق الإنسان بكلّ أنواعها السياسية والمدنية والوجودية معها. فإذا عدنا الى الملفين اللذين يعطلان اليوم الدولة ويجمّدان مؤسساتها وينذران بأبشع العواقب لوجدنا انّ التفلت من الدستور والقانون هو ما أنتج المشكلة وهو ما يمنع الحلّ ويضع لبنان في حال القلق والاضطراب. ولنبدأ بالملف الأول والمعروف باسم «الناجحين في ​مجلس الخدمة المدنية​» بوظيفة من فئة ثالثة أو رابعة من الفئات الإدارية في الدولة، فنجد انّ السلطة السياسية امتنعت بحجة عدم ​التوازن الطائفي​ عن اعتماد ما صدر عن مجلس الخدمة المدنية الذي طبّق القانون الذي أناط به أن يتلقى حاجات الوزارات الى الموظفين وشروط الوظيفة ويعلن عنها وينظم مباريات مناسبة لاختيار من يملأ به الشواغر ثم يرفع النتائج الى المعنيين لتنظم مراسيم التعيين بالأخذ حرفياً بما أفرزته المباريات من نتائج دون التوقف عند أيّ معيار آخر، لأنّ المادة 95 من الدستور تحصر مراعاة التوازن الطائفي بوظائف الفئة الأولى حيث انّ نصها الحرفي يقول «… في المرحلة الانتقالية… تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين…» المرحلة هي التي تبدأ من تاريخ اعتماد الدستور وتنتهي بتاريخ إلغاء ​الطائفية السياسية​. هذه المادة واضحة في عناصرها الرئيسية لجهة عدم مراعاة الانتماء الطائفي في التوظيف إلا ضمن شرطين اثنين: شرط المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في وظائف الفئة الأولى دون تخصيص أيّ وظيفة لأيّ طائفة، والشرط الثاني مراعاة «مقتضيات الوفاق الوطني» في باقي الوظائف بما يعني عدم استبعاد أيّ طائفة أو أيّ مذهب من سلة التعيينات بشكل عام، دون ان يصل الأمر الى تطبيق نص المناصفة في كلّ شيء. وقد نكون بحاجة الى تحديد جزئيات وتفاصيل تطبيق هذا الأمر. وفي هذا النطاق نستبعد مطلقاً فكرة القول بالمناصفة خارج الفئة الأولى كما نرفض فكرة الإقصاء الكلي لأيّ طائفة عن أيّ وظيفة، ويبقى ان نحدّد النسبة المقبولة في التعيين التي تدور بين الصفر والـ 50 وهنا يمكن اختيار أحد معياريين: إما معيار النسبة المئوية للطائفة الى مجموع السكان اللبنانيين او معيار الحدّ الأدنى المعقول كالقول مثلاً بنسبة 10 او 15 ، بما يعني انّ الدولة وعبر مؤسساتها الدستورية بحاجة الى تعيين هذا المعيار المقبول للمحافظة على مقتضيات الوفاق الوطني في التوظيف وبهذا ننهي الإشكال القائم ونمنع قيام إشكال جديد ونتجنّب خرق الدستور من هذا وذاك. أما الموضوع الثاني فهو موضوع الملاحقة الجزائية للمسؤولين عن «جريمة البساتين» أو ما اصطلح على

تسميته «حادثة قبرشمون«، وهي التي نجمت عن إقدام مسلحين على إطلاق نار أدّى الى مقتل اثنين من مرافقي الوزير ​صالح الغريب​ وجرح آخرين، وطالب حزب الوزير بإحالة الموضوع على ​المجلس العدلي​ ورفض «المشتبه به الظاهر» هذا الطلب، وجرى اصطفاف سياسي بينهما ما عطل اجتماعات ​مجلس الوزراء​ حيث يمتنع رئيس الحكومة عن الدعوة إليه، فهل من حق أحد ان يعطل مجلس الوزراء او يشترط عليه؟ وكيف تلاحق الجرائم أمام القضاء. قبل الغوص في الموضوع نذكر بانّ الملاحقة الجزائية في لبنان تتمّ أمام قضاء من ثلاثة: القضاء العادي وهو قضاء ذو ولاية وصلاحية شاملة تقوم في إطار المنظومة القضائية المرتبطة ب​وزارة العدل​، وقضاء استثنائي يتجسّد في ​القضاء العسكري​ والمتمثل ب​المحكمة العسكرية​ المرتبطة ب​وزارة الدفاع​، وأخيراً القضاء الخاص المتمثل بالمجلس العدلي الذي يشكل ويضع يده على قضية محدّدة بقرار من مجلس الوزراء الذي يتخذ قراره إذا كان من شأن الجريمة ووفقاً لاستنسابه أو ردة الفعل الأولية عليها أن تشكل مساساً بهيبة الدولة وبالأمن العام. وانطلاقاً من هذا يكون منطقياً ان تبدأ الملاحقة الجزائية فور وقوع الجريمة بتحرك ​النيابة العامة التمييزية​ التي لها ان تبقي القضية في إطار القضاء العادي الشامل او تحيلها الى القضاء العسكري انْ وجدت في الجرم عناصر نص قانون القضاء العسكري على اعتبارها من صلاحية هذا القضاء. اما الإحالة الى المجلس العدلي فهي حصرياً كما تقدّم من صلاحية مجلس الوزراء، وهنا نعود الى نظام هذا المجلس وصلاحية الدعوة الى انعقاده وصلاحية تنظيم جدول أعماله فنجد انّ الدستور أعطى هذه الصلاحية حصرياً لرئيس الوزراء يمارسها بالتنسيق مع ​رئيس الجمهورية​ والوزراء النص الدستوري: «يطلع رئيس الجمهورية والوزراء مسبقاً على المواضيع التي يتضمّنها جدول أعماله وعلى المواضيع الطارئة التي ستبحث» ، كما لحظ الدستور لرئيس الجمهورية صلاحية خاصة بترؤس الجلسة وطرح مواضيع من خارج جدول الأعمال إذا رأى انّ المصلحة الوطنية تفرض ذلك. أما رئيس الحكومة ورغم انه المحدّد حصراً في الدستور بالدعوة الى مجلس الوزراء ووضع جدول أعماله، فإنه ليس مطلق الصلاحية بالتحكم بهذا المسار، فرئيس الحكومة ليس هو السلطة التنفيذية بل يمارس دور المدير وليس دور القائد، بمعنى انّ عليه ان يأخذ بالاعتبار ما يرد اليه من طلبات من الوزراء ويدرجها في الجدول او يؤخرها لكن ليس له ان يسقطها ويهملها كلياً، ولنقل بوضوح أكبر انّ روح الدستور تفرض ان يجد كلّ طلب من وزير طريقه الى جلسة مجلس الوزراء ولا يكون لرئيس الحكومة ان يمتنع عن الدعوة الى مجلس وزراء بحجة الطلبات التي ترده او طبيعتها، كما ليس لرئيس الحكومة ان يسقط طلبات الوزراء لأنه ليس رئيسهم بل هو رئيس مجلس الوزراء الذي له ان يناقش كلّ الطلبات ويقرّر بشأنها. وعليه نرى التالي ان: 1 ـ من حق أيّ وزير أن يطلب إدراج أيّ موضوع على جدول أعمال مجلس الوزراء، دون أن يكون له اشتراط إدراج طلبه في جدول إعمال هذه الجلسة او تلك. 2 ـ من حق رئيس الحكومة ان يدرج طلب الوزير في هذه الجلسة او تلك ولكن ليس من حقه ان يسقط الطلب كلياً او يمنع طرحه على مجلس الوزراء نهائياً او يؤخر طرحه دون مبرّر تعسفاً او تسويفاً. 3 ـ من حق رئيس الجمهورية ان يرأس أيّ جلسة لمجلس الوزراء وان يطرح أيّ موضوع من خارج جدول الأعمال دون ان يكون من حق أحد بما في ذلك رئيس الحكومة ان بمنع الرئيس او يحول دونه ودون ممارسته صلاحيته تلك. 4 ـ من حق مجلس الوزراء مجتمعاً وحصرياً أن يتخذ القرار بشأن أيّ موضوع ورد في جدول الأعمال او يطرح من خارجه، ويقرّر مجلس الوزراء إما بالتوافق أو بالتصويت وليس هناك سبيل آخر. فإذا طبّقنا هذه القواعد على حادثة قبرشمون نجد الحلّ، ويكون على رئيس الحكومة أن يدعو إلى جلسة لمجلس الوزراء، وعليه أن يسمع لطلبات الوزراء دون فرض او إملاء، وله أن يضع جدول أعمال المجلس دون أن يفرض عليه هذا الموضوع أو ذاك، ويكون لرئيس الجمهورية أن يحضر الجلسة إذا اكتمل نصابها وأن يطرح

من خارج جدول أعمالها ما يشاء، ويكون للمجلس أن يقرّر في كلّ شأن يعرض عليه، قراراً يعتمد بالتوافق او بالتصويت… هذا ما ينص عليه الدستور ببساطة فهل يطبّق؟